لعلّ السمة الصادمة والمُنفـِّرة للسجال حول الأزمة السورية هي إنكار المشاركين فيه للحقائق والوقائع و المعطيات التي لا يشق غبارها . أقتضب لاقول هنا ، أن مرد هذا الموقف في رأيي، إلى الذهنية القبلية التي تجيز الغش و النفاق و الخداع و الظلم و ونكْثَ العهود ، من أجل التغلب على الخصم . و هي الذهنية التي حاول الإسلام كفاحها . و لكنها عادت و ظهرت بعد و فاة النبي العربي . وهي لا تختلف من وجهة نظري عن الذهنية التي تملي على المستعمرين ، الإستيطانيين منهم على وجه الخصوص ، تصرفاتهم و تقودهم إلى أرتكاب المقتلات . على قاعدة قناعتهم بأن الأجناس البشرية ليست متساوية ، وان الأصلانيين في البلاد التي يستمعرونها أنما وجدوا من أجل خدمة و رفاهية “الرجل الأبيض” الأعلى مرتبة . لا شك أن مشتركا فاشيستيا يربط بين القبلية والإستعمار .
وجملة القول أنه في الوقت الذي تعلو فيه الأصوات ضجيجا و صخبا ، يغرق الناسُ في بلاد الشام في بحر من الدماء . يموتون تحت ركام منازلهم أو يعانون الأمريين بحثا عن مكان يلجؤون إليه . و في هذا السياق ، لا أظن أن المؤشرات التي يلتقطها المراقب ، من خلال وسائل الإعلام العربية والغربية ، تدلُّ على أن الأمور تنحو منحى أيجابيا . على العكس أخشى ما يـُخشى أن تكون الغاية هي القتل و التدمير . فأغلب الظن أنه ، إذا أنتصرت الجماعات التي يجيّشها امراء النفط والحكومة التركية وتدعمها دول حلف الناتو ، أنهارت الدولة في سورية و أقتسم ترابها الوطني ، الطغاة و الولاة والوكلاء . بتعبير أكثر صراحة ووضوحا ، الخوف هو من خصصة العيش اليومي ،وإفساح مجال “الإكتتاب ” لشراء أسهم من الطغيان و الفساد و” الحرية و الديمقراطية “، أمام الذين يجيدون التملّق ،و يحوزون الأموال حصرا . من يعرف طبيعة الإستعمار ، لا يُقيّم الدول الغربية إستنادا إلى خطاب قادتها ، و لكن بعد النظر إلى مواقفها و سياساتها . فمن يدعم و يبرر ، الإستعمار الإستيطاني الإسرائيلي ليس بالقطع نصيرا للعدالة ومدافعا عن حقوق الناس .
أردت بهذه التوطئة أن أمهد لموضوع جعلني منذ بداية الأزمة في سوريا ، أمور في حيرة . أعني الأوصاف و النعوت التي تتضمنها سردية الأحداث بلسان و أقلام المتعاطفين مع جماعات المتمردين من جهة واولئك الذين يتشككون في أمر هذه الجماعات , و أنا منهم ، فينفون عن حراكها صفة الثورة من أجل تحرر الفرد و حقه بالمشاركة الديمقراطية في إدارة شؤون المجتمع الذي ينتمي إليه .
و ما يستوقفني في المقام الأول ، هو الزعم بأن سوريا يحتلها نظام الحكم و الفئات التي تتصدى لمقاومة المتمردين . فالقائلون بهذا يعتبرون أن السوريين يعيشون تحت سلطة المستعمرين .هذا ما حدا بأحد الكتاب السوريين الذين برعوا على الدوام ، بتوظيف المذهبية شحنا و تحريضا على المضي في القتل و التدمير ، مؤخرا على أستحضار أفكار فرانس فانون ، عن المواجهة العنيفة بين المستعمِر والمستعمَر .يفتضِح أمر أصحاب هذا الزعم عندما يذهبون ألى حد أشتراط تولية رئاسة الجمهورية إلى نائب الرئيس كمدخل للبحث عن حل للأزمة . رغم أن لا فرق بين الرئيس و نائبه ، سوى أن هذا يُصنّف بحسب المتمردين ، في مذهب و ذاك في مذهب آخر .
و من المرجح أن العصبية المذهبية هي التي أجازت للبعض تفرقة السوريين على اساس الديانات و المذاهب فضلا عن نبذ أقوام منهم و تكفيرها و قتالها بقصد الإنفصال عنها و” التحرر من إستعمارها “. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى التماهي الملحوظ مع الحاكم التركي و الإصطفاف جهارا نهارا تحت رايته . أين الوطن سوريا ، أين العروبة ، في هذا ؟ الم تتعمد وحدة السوريين وأنتماؤهم للوطن سوريا ، بدماء آلاف الشهداء من أبنائهم ، في حزيران 1967 و في تشرين 1973 ؟ من هم الذين وقفوا معهم و من هم الذين أيدوا عدوهم ؟
وبالمقابل ، تثبت المعطيات يوميا ، صدْق الإدعاء بان سوريا تتعرض لحرب تشنها قوى أجنبية . لست هنا بصدد تبيان الغاية التي تصبو إليها دول حلف الناتو ، عن طريق الإستعانة بمشيخات النفط و الحكومة التركية ذات ” الطابع الديني” . فما أود التأكيد عليه في الواقع ، هو حقيقة الغزو . و إعتمادي هنا على ما تناهى و تنامى إلى سمع و علم ، الإنسان العادي ، من خلال و سائل الإعلام . ليس من حاجة للبسط و التوسع في تحليل أسباب تضخم الدور القطري أو تضخيمه ، و كيف كان الأمير القطري يجـرُّ أمين عام جامعة الدول العربية من مؤتمر يعقده ” أصدقاء الشعب السوري ” إلى إحتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي أملا بأستصدار قرار يجيز للطيران الحربي الأطلسي تكرار النموذجين العراقي و الليبي ، والهجوم على سوريا . فالحصار المضروب حول سوريا ، و إقفال المجال الجوي امام طائراتها المدنية ، هما بحسب إعتقادي مؤشرات على بدء الغزو و الإستعداد لتصعيد وتيرته و تحيـّن الفرصة الملائمة لذلك . راجع تجربة العراق في الفترة التي سبقت الهجوم على الأبراج في نيويورك !
و لعل أبلغ الدلالات على حقيقة الغزو ، تلك التي يمكن أستنتاجها من وجود أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب في صفوف المتمردين ، جاؤوا إلى سوريا تحت ذريعة الدفاع عن المسلمين ، ضد المرتدين و الكفرة . راجع الحرب ضد الملحدين و الشيوعيين في أفغانستان ! بالإضافة إلى ذلك خذ أليك المناورات العسكرية التي تتابع تارة على الحدود الأردنية السورية و تارة أخرى على الحدود التركية السورية ، ناهيك عن أنواع السلاح و القذائف التي حصل عليها المتمردون . و أخيرا يكفي لكي نبدد الشك باليقين في مسألة الغزو، أن نذكر ما نقل عن ضابط سوري من أن المخابرات الفرنسية ساعدته عل الفرار من بلاده . ليس سرا ، بحسب وسائل الإعلام الغربية عل الأقل ، أن رجالا من مخابرات دول أوروبية ، يعملون و ينشطون على حدود سوريا مع الدول المحيطة بها (راجع حرب الكونترا) .
خلاصة القول أن الأمور تبدو منقلبة في بلاد العرب . أعلاها أسفلها . المستعمرون الإسرائيليون يزعمون أن الفلسطينيين محتلون ومشايخ النفط أوكلوا للسلطان التركي قيادة حرب الردة في سوريا ، و دول حلف الناتو تحشد عسكرها لتحرير سوريا من المستعمرين ” السوريين “، ومثقفون فاشيستيون ، لانهم قبليون متمذهبون ، يعلنون عن تنكر فرانس فانون “للمعذبين في الأرض” و لحق الشعوب في في تقرير مصيرها دون نصح و مساعدة من المستعمرين !
خليل قانصو
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)