قبل نحو عام اختار الرئيس السوري بشار الأسد صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية ليطلق تحذيرا للغرب من أن أي تدخل في بلاده يمكن أن يحدث زلزالا يحرق منطقة الشرق الأوسط برمتها. وكان الأسد واضحا عندما قال في اللقاء إن “أي مشكلة تقع في سورية ستحرق المنطقة برمتها، واذا كانت خطة الغرب تقسيم سورية، فإن ذلك سينسحب على المنطقة كلها”. التحذير الأهم كان من تحول سورية إلى أفغانستان جديدة. وشدد الأسد حينها على أن “سورية تعتبر الآن محور المنطقة، انها خط الصدع في الشرق الاوسط، ومن يتلاعب بها سيتسبب في حدوث زلزال”، وأطلق تساؤلا يخيف الملتهب من “فوبيا” القاعدة وأفغانستان حين قال ” هل تريدون رؤية أفغانستان ثانية هنا، أو عشرات الأفغانستانات؟”.
من غير المعروف الأثر المباشر الذي أحدثته تصريحات الأسد هذه على قادة المنطقة وصناع القرار في الغرب، خصوصا أن كثيرين منهم كانوا في غمرة النشوة بعد أيام من قتل العقيد معمر القذافي وطي صفحة حكمه إلى غير رجعة. ولعل المؤكد أن الأسد استطاع إيصال رسالته بمهارة مستغلا بروز الصبغة الإسلامية التي لا تخفى على أي متابع في معركة إنهاء حكم القذافي، واسقاطها على منطقة الشرق الأوسط ذات الموزاييك العرقي والطائفي المعقد.
ورغم عدم الرغبة في حصر المقالة هذه في الماضي إلا أن اكتمال الصورة يقتضي الإشارة إلى نقطتين هامتين؛ الأولى تزامن تصريحات الأسد ورسائله “الغربية” مع أخرى وجهت شرقاً صوب روسيا حين صرح للقناة الروسية الأولى في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2011، أي بعد يوم من لقائه مع “ديلي تلغراف”.
في الحديث مع القناة الروسية أكد الأسد أن بلاده تعول على روسيا في وجه احتمال قيام الغرب بشن عدوان عليها، وغمز من قناة أهمية سورية الجيوسياسية ومكوناتها الطائفية والعرقية مشيرا إلى أن “سورية بلد له موقع خاص جدا من الناحية الجغرافية ومن الناحية الجيوسياسية ومن الناحية التاريخية ومن النواحي الأخرى المختلفة، فسورية هي موقع الالتقاء لكل مكونات أو معظم مكونات الشرق الأوسط الثقافية والدينية والطائفية والعرقية وغيرها، وهي كخط التقاء صفيحتي الزلزال، وأي محاولة لهز استقرار صفائح الزلزال ستؤدي إلى زلزال كبير يضر كل المنطقة ولمسافات بعيدة يصيب دولا بعيدة ،وإذا اهتز الشرق الأوسط فكل العالم سيهتز”. واعتبر الأسد أن أي تفكير بتدخل غربي “سيكون ثمنه أكبر بكثير مما يستطيع العالم أن يتحمله، لهذا السبب حتى الآن تبدو الأمور تذهب باتجاه محاولات ضغط إعلامي سياسي اقتصادي”.
وأما الثانية فهي صدور أول مبادرة عربية لحل الأزمة السورية في الإطار العربي، فبعد مشاورات طويلة بدأت منذ بداية أغسطس/آب 2011 أطلقت الجامعة العربية مبادرتها الأولى التي تم التوقيع عليها في الدوحة في 30 أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته وتنص على شقين الأول: وقف كافة أعمال العنف من أي مصدر كان حماية للمواطنين السوريين، والإفراج عن المعتقلين بسبب الأحداث الراهنة، وإخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلحة، وفتح المجال أمام منظمات جامعة الدول العربية المعنية ووسائل الإعلام العربية والدولية للتنقل بحرية في جميع أنحاء سورية للاطلاع على حقيقة الأوضاع ورصد ما يدور فيها من أحداث. وفي شقها الثاني وبعد إحراز التقدم الملموس في تنفيذ الحكومة السورية لتعهداتها الواردة في أولاً، تباشر اللجنة الوزارية العربية القيام بإجراء الاتصالات والمشاورات اللازمة مع الحكومة ومختلف أطراف المعارضة السورية من أجل الإعداد لانعقاد مؤتمر حوار وطني وذلك خلال فترة أسبوعين من تاريخه.
وفي وقفة أخيرة مع تصريحات الرئيس الأسد لا بد من الإشارة إلى أن النظام تجاهل المجلس الوطني السوري الذي تأسس بداية ذات الشهر في اسطنبول كمحاور محتمل، وحدد شروطه للقبول بالحوار، كما ألمح إلى أن الحسم الأمني يسبق أي حوار سياسي، وانتقل إلى تبني نظرية المؤامرة الكونية بالكامل لتفسير الأحداث منذ بدايتها وهو ما يتضح من قول الأسد إنه “في الأشهر الأولى وتحديدا في الشهر الأول لم يكن من السهل معرفة حقيقة ما يجري ومن أين تأتي الأموال أو الأسلحة أو هل كانت هناك فعلا أموال وأسلحة . كان هذا سؤال في البداية، واليوم وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على بدء الأزمة في سورية تكونت لدينا معلومات واضحة ليست مكتملة ولكن من خلال التحقيقات مع الإرهابيين والتي تمت مؤخرا أصبح واضحا بشكل لا يقبل الشك تهريب السلاح عبر الحدود السورية من دول الجوار ودفع أموال أيضا.. تأتي من قبل أشخاص في الخارج ،والآن لدينا معلومات عن أشخاص يقودون هذه الأعمال خارج سورية في أكثر من دولة واحدة”.
لا لتمكين أي طرف من الحسم…
بالانتقال إلى الواقع الحالي من الواضح أن المعارضة المسلحة باتت أقوى بكثير منذ اشتداد عودها في أغسطس/آب من العام الماضي، والقوات النظامية أضعف مما كانت عليه في بداية الأحداث منتصف مارس/آذار 2011، لكن أيا من الطرفين لا يستطيع الحسم عسكريا. ولا تسير الأمور باتجاه احتكام الطرفين للحوار رغم الدمار الهائل في مناطق واسعة من سورية، وتأكيد الجانبين أن تدمير الجيش ومقدراته والبنية التحتية للبلاد يصب في مصلحة العدو الإسرائيلي. ويتضح مما تسربه الصحف الغربية، وتحليل سير المعارك على الأرض أن الأطراف الخارجية تدعم المعارضة المسلحة بما يكفي من أجل استمرار الصراع ومواجهة القوات النظامية دون تمكينها من تحقيق الحسم. ويخدم هذا التحليل ما نشرته صحيفة الغارديان في 11 أكتوبر/تشرين الأول الجاري من أن”امدادات الأسلحة تجف ولا توجد أي مؤشرات في الخطوط الأمامية في مدينة حلب على وجود الأسلحة الثقيلة التي يطالب بها المسلحون، في حين أوشكت ذخيرتهم على النفاد”. وأشارت الغارديان إلى أن الولايات المتحدة” تعارض دعوات السعودية وقطر إلى تزويد الجماعات السورية المعارضة بأسلحة مضادة للدبابات والطائرات”. ونقلت عن “أبو فرات”، الذي وصفته بأنه قائد ميداني قوله “إنهم يزوّدونا بما يكفي للحفاظ على استمرار المعركة، ولكن ليس بما يكفي من الأسلحة لكسبها، وأنا على يقين بأن الوضع لن يتغير حتى بعد انتخابات الرئاسة الامريكية، لكنني لست متأكداً من أن الجميع يمكن أن يبقوا على قيد الحياة حتى ذلك الحين”.
لهيب النيران ينتقل إلى الجوار…
وبات انتقال الصراع في سورية إلى نزاع إقليمي شامل قاب قوسين أو أدنى، فانتقال الصراع إلى دول الأقليم بدأ مع لجوء السوريين إلى الأردن ولبنان وتركيا والعراق وغيرها خوفا من عمليات القتل والاعتقال. وعاشت مناطق طرابلس والبقاع “بروفات” لما يمكن أن يتسبب به الصراع في سورية من نزاع على أساس طائفي على خلفية دعم أو معارضة نظام الرئيس الأسد. وفي العراق يحرك اللاجئون مشاعر العشائر العراقية في غرب البلاد، ويزداد الخطر مع احكام المعارضة المسلحة على منافذ حدودية مهمة. ومع توقعات سيئة على الداخل العراقي واللبناني المنقسم في شكل واضح على أساس طائفي، يبقى احتمال دخولهما أو تسهيل دخول قوات عبر اراضيهما أصعب بكثير في ظل موقف حكومة نوري المالكي، وسيطرة حلفاء سورية على الحكم في لبنان، ووجود حزب الله القوة العسكرية الأكبر في المعادلة اللبنانية والذي لن يسمح بسقوط نظام الرئيس الأسد.
ويبدو أن الخوف من تدخلات إقليمية يأتي من الجنوب حيث شهدت الحدود مع الأردن اشتباكات ومناوشات حدودية، وسقطت قذائف على الجانب الأردني من سهل حوران، وضلت قنابل أخرى طريقها لتسقط في الجولان المحتل من قبل إسرائيل أيضا. ولعل الأهم على هذه الجبهة هو ما تناقلته وكالات الأنباء عن وجود قوات خاصة أمريكية قرب الحدود السورية ربما تكون مقدمة لحشد قوات أكبر في المستقبل القريب تمهيدا لتدخل عسكري تحت ذرائع مختلفة، أهمهما حماية مخازن الأسلحة الكيمياوية.
تركيا على وشك الانزلاق في الحرب…
ويبقى التوتر المتصاعد مع تركيا على خلفية سقوط قذيفة على أراضيها أسفرت عن قتل أربعة أطفال وأمهم وجرح آخرين أهم خطر لتطور سيناريو الحرب الاقليمية. فمن جانب تتواصل الضربات التركية للأراضي السورية بعد حادثة سقوط القذيفة التي أودت بحياة الأم واطفالها الأربعة في قرية حدودية تركية، وصعدت تركيا الموقف باجبار طائرة سورية مدنية متجهة من موسكو إلى دمشق على الهبوط في انقرة وتفتيشها، وأكدت وجود حمولة أسلحة على متن الطائرة ، وهو ما تحظره قوانين الطيران المدني، فيما ترى سورية في العملية قرصنة جوية، وتؤكد مع موسكو عدم وجود أي حمولة ممنوعة على متن الطائرة. وتزداد المخاوف من تطور العمليات العسكرية إلى حرب شاملة مع موافقة البرلمان التركي على تفويض للجيش بخوض عمليات قتالية خارج الحدود، وحشد مزيد من القوات والطائرات. ويجد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردغان نفسه أمام مواقف صعبة، فهو من ناحية لا يريد تكرار الارتباك الذي بدأ على تصرفاته عقب إسقاط الطائرة في يوليو/تموز الماضي، كما لا يريد التورط في حرب واسعة مع سورية نظرا للمعارضة الداخلية، وانعكاسات أي حرب على الاقتصاد الوطني. ومن جانب آخر فإنه بات مقتنعا بأنه لا يمكن التعايش مع قيادة الرئيس الأسد بعدما قطعت “شعرة معاوية” منذ زمن بعيد، لكنه لا يجد بديلا في ظل تشرذم المعارضة، وزيادة نفوذ القاعدة والحركات الجهادية حسب تقارير ذات صدقية. كما يدرك أردوغان أن الولايات المتحدة ودولا عربية عدة تريد المواجهة من “الصف الثاني” ولا ترغب بمواجهة مباشرة، وتريد أن تحمل تركيا وزر الحرب وحيدة عبر تدخل مباشر، أو تسليح المعارضة وفرض مناطق عازلة في شمال سورية. ويفهم أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو أن معادلة “تصفير المشاكل” مع الجيران ولت، لكنهما لا يرغبان في حرب مفتوحة مع إيران وسورية تزداد صعوبة مع دخول العامل الكردي فيها.
حرب بالوكالة بين إيران والخليج
ولا يمكن إهمال عامل مهم وهو أن سورية تحولت إلى ساحة لحرب بالوكالة بين دول الخليج وإيران، والواضح أن كلا من الطرفين لن يتنازل بسهولة، لان سقوط الأسد يعني ضعف إيران وتراجع دورها الإقليمي، وربما يكون بداية لضربة مؤلمة لإنهاء برنامجها النووي. كما أن صناع القرار في طهران قد يفقدون صبرهم المعروف ويخوضون حربا في الخليج في حال تدهورت الأمور الاقتصادية أكثر، أو توجيه ضربة لبرنامجها النووي، أو حتى إذا لم تستطع التفاهم على دور لها في سورية في حال سقوط الرئيس الأسد.
وفي المقابل فإن سقوط الأسد يمنح دول الخليج نقاطا إضافية على حساب إيران التي قد تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات على خلفية الأوضاع الاقتصادية المتردية وسقوط حليفها الرئيسي في المنطقة في حال نجاح السعودية وقطر في مساعيهما.
المنطقة ومخاطر الحريق…
منذ أيام كنت أتابع برنامجا تلفزيونيا اختلف فيه ضيفان حول شعارين؛ الأول أشار إلى أن النظام أعلن صراحة شعاره منذ البداية وهو “الأسد أو نحرق البلد”، فيما أصر الضيف الثاني على أن المعارضة طرحت شعار “سقوط الأسد او تُحرق البلد”، ومن دون الدخول في هذا الجدل فالصور والمعطيات تشير إلى احتراق سورية ودخولها في دوامة حرب أهلية. وفي ظل كل ماسبق من ظروف في داخل سورية وجوارها تطغى مخاوف من إحراق المنطقة، والانزلاق إلى أتون حرب إقليمية قد تحرق المنطقة وتبث الفوضى سواء كان الشعار “بقاء الأسد أو إحراق المنطقة” ، أو “سقوط الأسد أو تحرق المنطقة”.
سامر الياس
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة الحرير غير مسؤولة عن فحواها)