أتحفنا سيد الإمارة القطرية قبل أيام باقتراح عظيم يليق بحجمه الضخم.. مقترحاً إرسال قوات عربية إلى سورية لحل الأزمة فيها، وقد أثار هذا المقترح دهشة المراقبين الذين شعروا بقصر في رقابهم وأنظارهم، أعجزهم عن رؤية الآفاق الإستراتيجية والسياسية والإنسانية المتضمنة فيه، كما احتاروا بالكيفية التي سيتم من خلالها تطبيق هذا الاقتراح، دون أن يتوقعوا بأن قادة العرب – خصوصاً ذوي العُكل منهم- عادة ما يرمون نرد السياسة على رقعة الشطرنج، على أمل أن يوقع نردهم طقطقة خفيفة تلفت انتباه لاعبي الشطرنج الكبار، وبناء عليه فقد وضع أمير الغاز نرده في إحدى قبضتيه، ثم نفخ فيه نفخة الحظ قبل أن يرميه بوجه الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما أحدث ”كزكزة” خفيفة في قاعة المجلس، مع أن النية ”والعلم عند حمد” كانت قلب زين ”الكزكزة” سيناً، وهي لعبة من اعتاد في نومه كزّ الأسنان بعد عنّات السرير والسياسة.
من المفترض طبعاً بمن يتقن فن الكزكزة، أن يعلم علم اليقين بأن النرد لا ”يكش” ملكاً ولا يوقع حتى أصغر البيادق، فلماذا أخرج حمد السمين نرده الصغير من تحت عباءته الفضفاضة؟ ومن أراد أن ”يكش عليه” به؟
بداية، ومن حيث الشكل، فقد أثار الاقتراح استياء أبناء ”بلاد الخليج أوطان.. من عَمان [بعد دعوة الأردن للنادي الملكي] لـ عُمان”؛ حيث اعتبروا أن استشارة دول العالم بالشؤون العربية الداخلية يهز عرش السيادة الوطنية، إذ ما حاجة ”سيف الخليج المسلول” لعرض المقترح على الأمم المتحدة!!.. أليس من الأولى أن تتم المباشرة بالإجراءات فوراً، فيستدعى مجلس التعاون الخليجي لاجتماع طارئ يُقدَم المقترح من خلاله، ثم يُستفتى عليه من قبل الشعب وفق القاعدة الديمقراطية المرعية: (أيها الشعب الخليجي العظيم.. قررنا أن)، وبعد أن ينال أو لا ينال موافقة الشعب العظيم، يبدأ تنفيذ الإجراءات العملية والميدانية بغية وضع حد للأزمة في ولاية الشام ولواليها الخارج عن طاعة الصدر الأضخم.
أما من حيث ”المضمون” الذي أدهش مراقبين، فقد انتهى باندهاش المراقبين أنفسهم، وهنا قمة العبقرية، أن تحقق ”اندهاش العقل” عبر ”انتفاش العُكل”، ما جعلهم يطلقون صيحة ”واو” لشدة الاندهاش، قبل أن يطلقوا عنان التحليل والمقارنة لمخيلاتهم، فانفجر المضمون، نتيجة لذلك، متأثراً بدوي أصوات القهقهة التي لا تزال مسموعة حتى الآن، خصوصاً وأنه أجبرهم، أي المراقبين، على التقاط بعض الأرقام القافزة من رمية النرد آنفة الذكر، جاعلاً من كل رمية.. رقم، ومن كل رقم إسفيناً يدُّق رقبة الرامِ.
أول ما تبادر إلى ذهن المراقبين كان مقارنة الجيشين السوري والقطري، إذ يبلغ تعداد الأخير، من غير حسد، 8500 ضابط ومجند، مقابل بضع مئات الألوف للجيش السوري، ما يجعل تعداد بواسل قطر أكبر حتى من تعداد الجنود الأمريكيين في قاعدة “العديد” القطرية والبالغ عددهم 3000 جندي أميركي، مع أن العدد قد يصل إلى عشرة ألاف كما حصل أثناء الحرب على أفغانستان، فبأي الجيشين المتواجدين على الأرض القطرية السيدة المستقلة ينوي الجنرال حمد (الذي ارتاد كلية ساندهيرست العسكرية في بريطانيا وفُصل منها بعد تسعة اشهر) غزو سورية!! وإذا كان الطريق من دوحة الغاز إلى دوحة الشمس يمر عبر فلسطين أو الأردن أو العراق، فبأي اتجاه سيتيمّم وجه أبو مشعل، وهل لبقايا فلسطين ومسجدها الأقصى حصة من كرمه، أم أن أنابيب الحرية الخام لا تصلح للعبور في أراضيها!!.. لكن رفعاً للحرج فإن أفضل الطرق المجربة [فوق رؤوس الليبيين] هي الطريق الجوية، خاصة وأن الإمارة تمتلك ”في قاعدتها الأميريكية” أكبر مدرج حربي في الشرق الأوسط، إذ يبلغ طوله 4500 متر، مع العلم بأن سربها الجوي مؤلف من اثنتي عشر مقاتلة حربية فقط، لكن لاشك بأن آلام الشعب السوري التي قرّحت بطن الجنرال أغلى بكثير من دزينة المقاتلات تلك، ومن يدعي أنه سلك كل الطرق لإخراج سورية من دائرة العنف والقتل!!، لن يبخل بالتحليق نحوها مجانباً صدم رؤوس أصدقائه الإسرائيليين، حرصاً على عدم الإزعاج (من جهة)، ولأن إسرائيل خط أزرق يُمنع الاقتراب منها أو تصويرها بموجب المواثيق والمعاهدات الدولية الملزمة (من الجهة ذاتها أيضاً) [حيث يمنع النظر إليها من جهتين مختلفتين].
وبالعودة إلى المقترح العظيم.. لم يغب عن بال وارث إمارة أبيه عن جده، أن يُعرّج على التاريخ قليلاً كي يُنيرنا به تدعيماً لرأيه، فاستشهد بمثال لبنان عند دخول قوات الردع العربية إليه، ولكي لا نتوّه الذاكرة في سرد المقارنات بين المثال اللبناني المراد التمثل به والمثال السوري المراد ”التمثيل” به، اخترنا أن نذّكر بمثال أكثر قرباً للأمير تاريخياً وجغرافياً، ألا وهو البحرين، التي دخلتها قوات درع الجزيرة في العام 2011 لتحرر ملكها العظيم من شعبه الطاغية، ولتُسقط، حسب قول الملك، المخطط الخارجي الإيراني الذي عُمل عليه لمدة لا تقل عن ”20 أو 30 عاماً”، دون أن يحدد سبب امتداد قيلولته وقيلولة أجهزته الأمنية والمخابراتية على طول تلك السنوات، فسبحان خالق الثورات، في ليبيا وأخواتها إعجاز شعبي، وفي البحرين مخطط إيراني بوشر به قبل 30 عاماً، حيث اجتهد الإيرانيون بعد ثورتهم بالعمل على مشروعي إنتاج الطاقة النووية وإسقاط حكم البحرين، فنجح الأول وأُسقط الثاني، أما رئيس وزراء الدوحة حمد الصغير فقد برر التدخل الخليجي بوجود اتفاقيات والتزامات أمنية واضحة، داعياً المعارضة البحرينية للحوار وترك الاعتصام [!!!]، والجدير ذكره أن اتفاق كسر شوكة الشعب الخليجي وظهره إن لزم الأمر، ينص على أن قوات الدرع تأتمر بأمر قيادة البلد الذي تدخله، أي أنها حالياً تحت إمرة حمد ”الملك” تطحن مع شقيقتها البحرينية عظام أولئك المتآمرين مع إيران ممن يسمون ”شعب البحرين”، فهل سيطبق حمد ”الأمير” ذات الإتفاق في الحالة السورية؟ فيضع نفسه وجنده تحت تصرف قيادتها؟.. ربما، ففي لعبة الكبار لا يستطيع أن يقف الصغار طويلاً على أكتاف أسيادهم لينادوا لهم على بضائعهم [تشكيلة الحريات وحقوق الإنسان]، فقد يمل الأسياد من كساد بضاعتهم فيبيعونها وصبيهم برأس مالها، ما يقلب أدوار الصبية رأساً على “شعب”.
لكن بما أن التاجر الأميركي لا يزال مُصراً على فرد بضاعته على كتف المتوسط ومنافسة التاجر الروسي، فإن حرب الشطرنج ذات النفس الطويل جداً، لا تزال تعتمد حتى اللحظة خطة طحن الجند بالجند، دون تحريك القلاع أو البوارج؛ إنها مباراة شطرنج القرن الحادي والعشرين، تطل بعد 40 عاماً من لعبة شطرنج القرن العشرين عام 1972 والتي كسر اللاعب الأمريكي ”بوب فيشر” من خلالها احتكار السيطرة السوفيتية على اللعبة، بعدما فاز على غريمه السوفيتي ”بوريس سباسكي”، وقد عدت تلك المباراة امتداداً للحرب الباردة، وما يجمع اليوم بالأمس هم اللاعبون ذاتهم واللعبة ذاتها والحماسة ذاتها، مع فارق استبدال ”الرقعة” بخارطة الشرق الأوسط البائس، فهكذا هم الكبار حين يلعبون، تمتد اللعبة ويطول الصبر وتحترق الخرائط، فما من قوانين أو قواعد تحد من اللعب المفتوح على جميع الجبهات، باستثناء قاعدة واحدة بسيطة وغير معلنة، وهي ألا مكان لعبارة: ”كش ملك”، فالملوك تعيش دوماً ولا تموت، وبالتالي لا تغدو حسابات اللعب مجرد نقلة أو اثنتين، فليس من الضروري أن يكون ناتج جمع الـ one+one = tow لأنه ببساطة قد يعطي one+один [1 بالروسي] أو ربما one+один+يك [1 بالفارسي] والنتيجة ستكون دوماً اتفاقاً مُرضياً لصالح ذاك المجموع، وستبقى النتيجة كذلك مادامت معادلة الـ (واحد + واحد) لا تعطي إلا (واحد على واحد) ومنها اشتُق المقترح الحمدي آنف الذكر ومئات قبله.
أخيراً، وقياساً على عقلية سيد الدوحة، فإن دخول جحافل العرب دمشق عنوة، لن يتم على ما يبدو إلا بتقنية ”انقلاب حمد التلفزيوني”، عندما وجه الولد البار بأبيه الدعوة لوجهاء رَبعه، مستغلاً غياب والده في رحلة استجمام أوربية، فقام بتصويرهم وهم يسلمون عليه، ثم عرضهم في التلفاز على أنهم يقدمون البيعة له دون أن يكونوا على علم بما يجري، وقياساً على ذلك نقترح تصوير آليات الدرع القطري تدخل شوارع دمشق انطلاقاً من شوارع (الوكرة- الخور) لتبدأ بعدها بقصف القصر الجمهوري القابع على مشارف جبال الجساسية، وفي ختام المشهد لابد وأن يسقط أسد الدوحة بوكزة رمح من يد وريث جديد لعرش الإمارة، يكون أكثر كفاءة من سابقه في تسويق بضاعة الملوك، وأصلب عوداً في رمي أحجار النرد بعيداً عن طاولة الضاد وأبجديتها وإلا: فكش حمد.. عاش الملك، بل قل عاش الملوك.
أسامة رافع | اوقات الشام
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)