لا تزال قضية تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمّد يعقوب والصحافي عبّاس بدر الدين في ليبيا يلفّها الغموض حتى بعد مقتل العقيد الليبي معمّر القذّافي المتهم الأول والأخير بإخفائهم منذ 34 عاماً. وإذ يخشى البعض من أن تكون الحقيقة الكاملة للإخفاء قد دُفنت مع القذّافي الذي عُرف بغرابة أطواره، إلاّ أنّ مصدراً مطلعاً على سير الملف في لبنان وليبيا، وخصوصاً بعد تشكيل لجنة متابعة رسمية دائمة لهذه القضية (قبل مصرع القذّافي) برئاسة وزير الخارجية والمغتربين عدنان منصور ومدير عام الوزارة هيثم جمعة، والقاضي حسن الشامي ممثلاً وزارة العدل، والعميد غسّان سالم ممثلاً لقيادة الجيش الى جانب طاقم ديبلوماسي وبعض المختصّين، يؤكّد لجريدة «الديار» أنّ الأمل بتحرير المخطوفين أحياء لا يزال قائماً الى أن يثبت العكس بالأدلة والبراهين.
أمّا كلّ ما كُتب ونُشر وقيل عن هذه القضية حتى اليوم، فلا يتعدّى، بحسب المصدر، الشائعات والأقاويل أحياناً، والمعلومات غير المؤكّدة في أحيانٍ أخرى، والتي من شأنها تشويه الحقائق التي تسعى اللجنة للحصول عليها من خلال زياراتها المتواصلة الى ليبيا ولقائها مع السلطات الليبية الجديدة التي تبدي كلّ تعاون بهدف معرفة حقيقة ما جرى منذ اللحظات الأولى لتغييب الإمام الصدر ورفيقيه.
ويروي المصدر نفسه تفاصيل قصّة إخفاء الإمام الصدر ورفيقيه منذ الزيارة الأخيرة لهم الى ليبيا، فيقول: «ذهب الإمام موسى الصدر الى ليبيا بناء على وساطة من الرئيس الجزائري السابق الراحل هواري بو مدين، وكانت الحاجة الى هذه الوساطة تعود لتوتّر علاقة الإمام بالقذّافي لسببين: الأول، يعود الى اللقاء الأخير بين الرجلين في العام 1975 الذي انتهى على خلاف وفتور. والثاني، لأنّه جاء نائب القذّافي عبد السلام جلّود الى لبنان بين عامي 1976 و1977 داعماً لما يُسمّى بالحركات الوطنية ضدّ الأحزاب المسيحية بالسلاح والمال بهدف تهجير المسيحيين. وقد اقترح القذّافي يومها تهجيرهم من لبنان واستضافتهم في أي بلد آخر، فأخذ الإمام موقفاً سلبياً منه ومن نائبه. ولم يترك جلّود آنذاك مسؤولاً فيما كان يُسمّى «بيروت الغربية» إلاّ وطلب مقابلته باستثناء الإمام الصدر».
وبالعودة الى وساطة بومدين، يشدّد على أنّه كان للإمام الصدر مطلبان يريد طرحهما على القذّافي خلال لقائه به: الأول، يتعلّق بالقرار الدولي 425 الذي صدر في آذار من العام 1978 وينصّ على الإنسحاب الإسرائيلي من الجنوب. وقد قام الإمام الصدر بعد صدور هذا القرار بجولة على عدد من الدول العربية لتأمين ضغط عربي على الدول الكبرى لإجبار إسرائيل على تنفيذه. وكان سيطرح هذا الأمر على القذّافي.
والمطلب الثاني الذي كان سيقوله للقذّافي هو: «أوقف تسليح مدّ بعض المنظمات الفلسطينية الصغيرة بالسلاح والمال (التي كانت تعيث فساداً في بيروت والجنوب من خطف وذبح للمواطنين في الشوارع)، إذ لا سبيل لوقف الحرب الأهلية من دون وقف التسليح هذا».
وبعد الوساطة التي تمّت، يتابع المصدر، وصل الإمام الصدر في 25 آب من العام 1978 (في شهر رمضان) الى طرابلس الغرب بهدف مقابلة القذّافي بسرعة والإنتقال بعدها من ليبيا الى فرنسا حيث كانت زوجته مريضة. وكانت ليبيا تحضّر لاحتفالات «الفاتح من سبتمبر» (أي الأول من أيلول) ولم يكن ينوي الإمام حضورها. وبينما كان في الفندق ينتظر تحديد الموعد له مع القذّافي كان يتمّ التأجيل، الى أن تمّ تحديده في الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر 31 آب.
وشوهد الإمام القذّافي للمرة الأخيرة خارجاً من الفندق، بحسب المصدر، من قبل الذين كانوا يسمّون آنذاك رموز «الحركة الوطنية» أمثال محمد قباني، طلال سلمان، بشارة مرهج، منح الصلح، وأسعد المقدّم الذين ينزلون في الفندق نفسه، وفهموا منه أنّه ذاهب لمقابلة القذّافي. وكانت حضرت سيارات مرافقة للإمام من البروتوكول، فاستقل إحداها، وهنا انتهت الوقائع الثابتة.
.. بعد ذلك بدأت المعلومات شبه المؤكّدة تتناقل ما حصل في هذا اللقاء، فذكرت أنّه كان عاصفاً جدّاً، وانتهى بعبارة القذّافي الشهيرة: «خذوهم». ولم يُعرف ما الذي حدث بعد ذلك. ولكن على الأرجح، على ما يقول المصدر، أنّه تمّ حجز الإمام الصدر على الأقلّ في سجون عدّة لفترة طويلة، ولكن ليس من تأكيد مطلق لذلك.
ويتابع: «وضع الليبيون خطة ونفّذوها فقد كلّفوا ثلاثة ضبّاط من المخابرات (معروفين من الجانب اللبناني بالأسماء ولدينا مستندات خطية تدينهم) بانتحال شخصية الإمام الصدر ورفيقيه، فاستقّلوا طائرة «أليطاليا» الساعة التاسعة من ليل 31 آب، مستخدمين جوازات سفر الإمام ورفيقيه، وتوجّهوا الى روما، وحطّت الطائرة هناك عند الحادية عشر والربع. والمفارقة أنّه تمّ الحجز في فندق «هوليداي إن» عند العاشرة صباحاً من قبل إثنين منهما، بحسب سجلات الفندق، في حين حجز الثالث في فندق آخر. وحصلت تساؤلات حول المكان الذي أمضوه هؤلاء الثلاثة طوال ساعات الليل حتى العاشرة صباحاً».
ويذكر أنّ سفير لبنان في ليبيا آنذاك نزار فرحات بقي منتظراً في الفندق نحو خمس ساعات عودة الإمام للسلام عليه وتوديعه، لا سيما بعد أن علِم أنه لم يُنهِ معاملات مغادرته للفندق غير أنّ الإمام لم يعد.
ويؤكّد المصدر عينه أنّ التحقيق الإيطالي الرسمي القضائي والأمني، والذي حصل على مرحلتين في عامي 1978 و1981 قد ثبّت بقرارات قضائية ونهائية كلّ هذه الوقائع: تمّ تغيير صور الإمام الصدر ورفيقيه على جوازات السفر، وأنّ الإمام الصدر ورفيقيه لم يدخلا الى روما وذلك من خلال التحقيق مع طواقم كلّ من المطار والطائرة والفندق. فطاقم الطائرة أكّد أنّه لم يُشاهد رجلاً بمواصفات الإمام الصدر فارع القامة بطول 197 سنتميتراً وصاحب عينين خضراوين ساحرتين، على متن الطائرة وفي المقاعد المخصّصة للصفّ الأول خلال الفترة المحدّدة.
كذلك ثمّة إفادات موقّعة من طاقمي المطار والفندق (هي بحوزة الملف القضائي اللبناني الرسمي) تقول إنّه من المستحيل أن يكون هذا الرجل قدّ مرّ منذ أسبوع في المطار لأنّه مميّز ولا يمكن عدم ملاحظته حتى أنّه لم يكن هناك من يشبهه. كذلك جزم طاقم الفندق عدم رؤيته لهذا الرجل، وأفاد أنّ مدنيين دخلا الى الفندق بقيا عشرة دقائق في الغرفتين اللتين حجزاها وبعد ذلك تركا حقائبهما فيه وغادرا. وذكرت الإفادات أيضاً أنّهما كانا يحملان الأموال «كاش وبالدولار»، ودفعا بخشيشاً مرتفعاً، حتى أنّ حمّال الحقائب «جوزيبي دورانتي»، على ما كشف المصدر، وخلال التحقيق معه بعد أيام قليلة من الإخفاء، قال أنّ الرجلين الذين أتيا الى الفندق كانا مدنيين أو أحدهما مدني على الأقلّ، والثاني لم يكن يدري ماذا يرتدي. وكان أحدهما يتصرّف مع الآخر «كجندي أمام ضابط».
هذا على صعيد التحقيق الإيطالي، أمّا ما الذي فعلته السلطات اللبنانية بعد سنوات الإخفاء وحتى يومنا هذا، فيفيد المصدر أنّ السلطات أحالت القضية الى المجلس العدلي في العام 1981 وقد تناوب محقّقين عدليين عدّة على القضية. وجرى الاستماع الى عدد كبير من الشهود، حتى من اللبنانيين الذين كانوا موالين للقذّافي ووُجدوا في ليبيا في تلك الأثناء مثل بشارة مرهج، أسعد المقدّم، ومحمّد قبّاني. وأكّدوا الوقائع المذكورة أعلاه بالنسبة للأيام الستّة التي قضاها الإمام الصدر في ليبيا قبل إخفائه. وتمّ تبلّغ نسخة رسمية عن التحقيقين الإيطاليين والاستماع لعدد كبير من الشهود وضمّها الى الملف اللبناني.
وفي العام 2007 جرى تعيين «لجنة خبراء خطوط» للتأكّد من التلاعب بجوازات السفر التابعة للإمام الصدر ورفيقيه، ضمّت كبار الخبراء في مجال التزوير وقد أثبتوا أنّه تمّ التلاعب بجوازي سفر الإمام والشيخ يعقوب، غير أنّ جواز سفر السيد بدر الدين لم يتمّ العثور عليه، لأنّه زُعم أنّه نزل في فندق آخر في روما يُدعى «ساتيلايت».
وبعد استكمال كلّ هذه الإجراءات، تمّ تعيين آخر محقّق عدلي في القضية هو القاضي سميح الحاج الذي بلّغ القذّافي وستة من أعوانه ضرورة الحضور الى لبنان كمدعى عليهم. ومن ثمّ أكّد في قرار جزائي عدم تمتّع القذّافي بأي حصانة رئاسية لأنّه أولاً في خطاباته كلّها يقول إنّه ليس رئيساً بل خادماً للثورة.
وثانياً، لأنّه لا يمكن أن يتمتّع بالحصانة إذا ما ارتكب جرماً لأنّ ذلك لا يدخل في اتفاقية فيينا، كما أنّه ثمّة قرارات قضائية فرنسية لا تؤيّد الحصانة المطلقة للرؤساء.
وبناء عليه، وبعد استكمال كلّ هذه المعطيات بدقّة متناهية، يضيف المصدر أنّ الرئيس الحاج أصدر قراره الاتهامي في 21/8/2008، واتهم فيه القذّافي و ستة من معاونيه «الصغار» (معظمهم ما زال على قيد الحياة) بجرائم الخطف والإرهاب والتزوير، وأصدر مذكّرات غيابية بحقّهم. كما سطّر مذكّرة تحرّ دائم لمعرفة هوية 11 شخصاً آخرين من أعوان النظام بينهم بعض «الكبار» أمثال عبد السلام جلّود وعاشور الفرطاس والذين ثبت تورّطهم في الكذب والتضليل والمشاركة في الجرائم المذكورة أعلاه. ولكن للأسف، لم تتمّ معرفة كامل هوياتهم، لأنّ القانون اللبناني يمنع اتهام شخص ما، إذا لم يكن لدى القاضي إسمه الثلاثي وإسم أمّه وتاريخ ولادته، والقضاء اللبناني لا يملكها.
وفي 10 كانون الأول من العام 2010، بدأت مرحلة جديدة في ملف الإمام الصدر، فقد أصدر الرئيس السابق لمجلس القضاء بصفته رئيساً للمجلس العدلي غالب غانم، ما يُسمّى في القانون بـ «قرارات مهل»، وهي تعني بدء جلسات المحاكمة أمام المجلس العدلي للمتهمين المحاكمين غيابياً. وبالفعل حدّد الرئيس غانم في 10 كانون الأول، بحسب المصدر، أول جلسة محاكمة في 2 آذار من العام 2011، وكان يُفترض أن ينال خلالها القذّافي حُكماً غيابياً بالإعدام أو الأشغال الشاقّة المؤبّدة، ولكن مفارقة الأقدار أنّه وقبل أسبوعين بالتمام والكمال من انعقاد الجلسة الأولى اندلعت الثورة في ليبيا في 17 شباط، فتوجّهت الأنظار من قبل عائلة الإمام الصدر والمراجع اللبنانية المعنية لمراقبة ورصد ما سيحصل هناك. وأمر رئيس مجلس النواب نبيه برّي أن تواكب محطة الـ «أن.بي.أن» الثورة الليبية على مدار الساعة والتي امتدت لأشهر طويلة.
سيريان تلغراف