لم نجد تسمية لهذا المقال تعبر عن ما يجري فعلا إلا مثل شعبي مصري. ولكي لا نقع في فخ التأويلات والحذلقات النظرية، فالفيلم المسمى بـ “الفيلم المسيئ للرسول”، وهو فيلم هابط فنيا وفكريا، ظهر إلى الوجود في 2 يوليو 2012. وبالتالي من الصعب أن نتحدث عن التوقيت ونربط ذلك بسيناريوهات وأوهام لنقع مباشرة في مركز نظرية المؤامرة. فالفيلم الهابط وردود الأفعال عليه، وكما جاء في تعليق مواطنة أمريكية تعيش وتعمل في بيروت، مجرد غطاء على أمور تحدث بالفعل، ومقدمة خطيرة لأحداث جسام قد تقع عاجلا أو آجلا. فكل ما جاء في الفيلم قيل ويقال في مقالات وكتب وتحليلات منذ عشرات ومئات السنين، ولم يؤثر ذلك لا على الإسلام ولا على المسلمين. كل ما في الأمر أن الفيلم اكتسب زخما غير محدود بمناسبة ذكرى 11 سبتمبر حيث هب الجهاد والمجاهدون في موقعة السفارات والسفراء.
لنفترض أنها مؤامرة صهيونية – قبطية مهجرية. ولنفترض أيضا أنها مؤامرة ضد الولايات المتحدة التي تقود العالمين العربي والإسلامي إلى الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني. ولكن من قال إن ما جرى ويجري بشأن الفيلم الهابط هو أمر منطقي من هذا الطرف أو ذاك. إن ما يجري في واقع الأمر لا يعدو كونه مجرد كابوس أو في أحسن الأحوال مشاهد عبثية مثيرة للضحك والسخرية، ثم القرف والانزعاج، من الطرفين على حد سواء. وعموما فالسيناريوهات المرنة والمتحركة في السياسة الكبرى والتأثيرات الجيوسياسية لا تكون أبدا مباشرة وسطحية وساذجة وسريعة، بل مرنة وتتسع للمتغيرات الجديدة وتتحرك وفق قواعد وقوانين خاصة بها وبمصالح أطرافها الرئيسيين. وأعتقد أن سيناريو أفغانستان هو خير دليل على صحة هذه الفرضية، لأنه لم يبدأ منذ دخول القوات السوفيتية إلى أفغانستان، أو خروجها وانهيار الاتحاد السوفيتي بعدها بعامين أو ثلاثة، ولا حتى في 11 سبتمبر 2001. وكذلك السيناريو العراقي ومن بعده الليبي.. الأمور أكثر تعقيدا وتركيبا!!
لقد حاولنا أن نخدع أنفسنا ونخدع الآخرين المتناقضين معنا في الآراء، فرحنا نؤكد أن الليبراليين وصلوا إلى الحكم في ليبيا على عكس المقولات والتحليلات التي تشير إلى أسلمة شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ولم نفكر لحظة في الخريطة السياسية والاجتماعية والقبلية في ليبيا، ولا من أين جاء الليبراليون الليبيون، وهل هناك ليبرالية وليبراليون في ليبيا؟! هذا في الوقت الذي يختلف فيه الوضع الميداني تماما في هذا البلد عن ما تصدره لنا بعض وسائل الإعلام المتنفذة، فكل يوم يقتل في ليبيا ما لا يقل عن 50 أو 70 شخصا إلى جانب التفجيرات والعمليات الانتحارية. ومن قال إن الأمور قد استقرت في تونس أو مصر أو اليمن في ظل حكم الإسلام “المعتدل”؟! هل يمكن أن نقع في فخ ساذج مثل هذا الفخ؟ وأي استقرار يقصدون، هل هو الاستقرار الاجتماعي، أم السياسي، أم الاقتصادي؟ هل هو الاستقرار الأمني؟!! أعتقد أن تسطيح الأمور لإثبات وجهات النظر أو تفريغ الأوضاع الاجتماعية والسياسية من مضامينها للتركيز على مكاسب ضئيلة وقصيرة النظر، أمران يضران بأية قضية ويأتيان بنتائج عكسية تماما.
من الواضح أن خطاب الإسلام السياسي بعد وصول أصحابه إلى السلطة قد طال كل شيء ما عدا بعض الأمور من قبيل الحريات والعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة والإصلاحات السياسية والاقتصادية والتشريعية. لقد انعطف، أو بالأحرى استمر هذا الخطاب في إطار الشعوذة وتشتيت الجهود وإطلاق الفتاوى الدينية والتشريعية. والغرب يدرك جيدا هذا الخطاب ويستخدمه جيدا. وهناك مثلان شعبيان مصريان يعبران جيدا عن هذه المعادلة “الهابطة” أيضا: “ما أوسخ من ستي إلا سيدي” و”رزق الهبل على المجانين”! وأعتقد أن تيار الإسلام السياسي لو كان قد وضع في أولوياته الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية والتركيز على عمليات التنمية الحقيقية ووضع خطط للتعليم والبحث العلمي وإطلاق الحريات، لكان مثل هذا الفيلم الهابط قد مر مثلما تمر عربة القمامة من أية حارة جانبية. لكن الخطابين يستحقان بعضهما البعض. وبعد أيام قليلة ستعود المياه إلى مجاريها بين الإدارة الأمريكية وبين أنظمة الإسلام السياسي في تونس ومصر والسودان والنظام “الليبرالي!” في ليبيا، وكذلك النظام غير المفهوم في اليمن.. ولكن قد تصبح المياه في هذه الحالة غير صالحة للشرب. وأعني تحديدا أن الولايات المتحدة لا تتخلى عن مواطنيها ولا تترك ثأرهم.
ولكن إذا كان البعض يرى أن أنظمة الإسلام السياسي جاءت إلى السلطة عبر انتخابات نزيهة وحرة وغير مسبوقة في شفافيتها، فليبرر لنا كم الدسائس والمؤامرات المحيطة بهذه الأنظمة وعلاقاتها وعلاقات قادتها المضببة بالغرب عموما، وبالولايات المتحدة على وجه الخصوص! وهل يمكن أن نفهم تلك العلاقة الملتبسة بين تلك الأنظمة وبين الإدارة الأمريكية من جهة، وسر استمرار عداء شعوب المنطقة لسياسات الولايات المتحدة؟ وهل يمكن أن نفهم من هذه التناقضات أن أنظمة الإسلام السياسي لا تختلف كثيرا عن الأنظمة التي سبقتها من حيث العلاقة مع واشنطن وبعض العواصم الغربية من جهة والعلاقة مع شعوبها المعارضة لسياسات هذه العواصم؟ هل يمكن أن نفكر ولو للحظة واحدة، لماذا لا تخرج مظاهرات واحتجاجات عظيمة كهذه وبهذا الزخم الهائل ضد الفقر والفساد وقمع الحريات؟ لماذا لا يثور الناس في 5 دول تكاد تكون متجاورة ضد الظلم الاجتماعي والتخلف والبطالة والفتنة الدينية والعرقية؟ هل لأن سكان المنطقة متدينون، أم لأن الغضب لا يزال يملأ صدورهم على الظلم والفساد والتخلف وضيق الحال ولا مخرج لهم إلا ذلك حين تختلط الأوراق باسم الدين ليصبح تحقيق العدالة الاجتماعية بالمحبة والمرأة غير المختونة ناقصة الإيمان والرجل غير المختون شهادته مطعون فيها أمام المحاكم والممثلات عاهرات ومعارضو أنظمة الإسلام السياسي كفار وملحدون؟!
د أشرف الصباغ
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)