لطالما استنكر البعض الحديث عن “نظرية المؤامرة”، حتى لو كانت خيوط نسيجها واضحة في تناسقها واتجاهها نحو هدف محدد وخطير، يشبه ما نسميه “مؤامرة” على الجيوش العربية، التي شكلت خطراً مقلقاً على مصير الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين العربية، ويشرد أهلها ويهوّد مقدساتها وحواضرها.
لكن ما جرى لأهم الجيوش العربية وأقواها لا يدع مجالاً للشك بأننا نشهد هذه الأيام حلقة أساسية من مسلسل هذه “المؤامرة” الرامية إلى ضرب وتدمير نقاط القوة العربية، ليتسنى للكيان الصهيوني الاستمرار والبقاء، وللأنظمة العربية الذيلية؛ مواصلة دور الشرطي الذي يمنع شعبه من القيام بأي عمل يزعج “الحاكم” الأميركي والغربي وقاعدته العسكرية المتقدمة “إسرائيل”.
لو أخذنا المشاركة العربية في ما يسمى “حروب فلسطين” منذ العام 1948، لوجدنا أن الأدوار الفاعلة فيها كانت مقصورة على عدد محدد من تلك الجيوش التي جرى ويجري تفكيكها وإلغاء فاعليتها وإلهاؤها بكثير من القضايا التي تبعدها عن القضية العربية المركزية؛ فلسطين.
أول الجيوش التي أزيل القلق “الإسرائيلي” منها كان الجيش الأردني، الذي تولى نيابة عن كيان العدو وجيشه تصفية المقاومة الفلسطينية عام 1969، في ما عُرف بمجازر إربد وجرش والسلط وعجلون وغيرها، ولم يكن غريباً عن جيش ملك الأردن القيام بهذه المهمة القذرة حينما نعرف أن الإنكليز أنشأوه خلال انتدابهم على إمارة شرق الأردن، ووضعوا أحد جنرالاتهم (غلوب باشا) قائداً عليه، وهذا، لسخرية القدر، هو الذي قاده عام 1948 “لتحرير فلسطين” من العصابات الصهيونية، وهذا الجيش مقيد حالياً باتفاقية “وادي عربة” بين النظام الأردني والكيان الصهيوني.
ثاني تلك الجيوش كان الجيش المصري، المصنف في المرتبة الحادية عشرة بين الجيوش العالمية، حيث جرى تحييده إثر معاهدة “كامب ديفيد”، التي عقدها أنور السادات مع الكيان الصهيوني، ثم جرى تكبيل هذا الجيش الذي يعتبر تقليدياً أقوى الجيوش العربية، عبر حصر تسليحه وتدريبه بالأميركيين، الذين لا يمكن أن يسمحوا له بأن يهدد “إسرائيل” طالما بقيت لهم سلطة على قراره، خصوصاً أن “الإخوان المسلمين” الذين وصلوا إلى السلطة في مصر مؤخراً، لا يتحرجون من تأكيد التزامهم بالمعاهدة السيئة الذكر، وبارتباطهم التقليدي بالسياسات الأميركية في المنطقة العربية، واسترشادهم بسياسات المملكة السعودية، التي تعتبر رأس التبعية للمشاريع والسياسات الأميركية.
أما قصة ثالث تلك الجيوش ففيها كل العجب، لأنها تختصر ما جرى للعراق خلال العقود القليلة الماضية، فلطالما شكّل الجيش العراقي ظهيراً قوياً للجبهة الشرقية في مواجهة العدو الإسرائيلي، كما أنه كان عامل قلق دائم لدول الخليج النفطية، لكن المخطط والمخططين تمكنوا من تغيير بوصلة هذا الجيش، لتكون وجهته الجمهورية الإسلامية الفتية في إيران، عبر دور معروف مارسه ولي العهد السعودي آنذاك فهد بن عبد العزيز، الذي أصبح ملكاً فيما بعد، حيث أغدقت ممالك وإمارات ومشيخات الخليج مساعداتها المالية لصدام حسين، الذي وافق على تنفيذ مخطط استهداف إيران، بعدما رفض ذلك الرئيس أحمد حسن البكر، فأزاحه صدام وتولى الحكم مكانه، في حين تولت الولايات المتحدة والدول الأوروبية، خصوصاً فرنسا وبريطانيا، تأمين كل الحاجات العسكرية لهذا الجيش، ليبلغ تعداده عشية “حرب الخليج” عام 1991 مليون مقاتل، بما جعله في التصنيف العالمي الجيش الرابع من حيث الحجم والقوة، لكن عندما توقف هذا الجيش عن محاربة إيران، جرى استدراجه لمهاجمة الكويت، ليتم ضربه عبر تحالف دولي عام 1991، ولتستكمل العملية ذاتها عام 2003 بتدمير العراق، من قبل التحالف الأميركي ــ الأطلسي – العربي – الخليجي نفسه الذي ورطه في الحرب على إيران، وكذلك بتدمير الجيش العراقي، ثم بإعدام صدام نفسه، وهكذا اطمأن أعداء العراق إلى أنه لن يستعيد دوره الإقليمي قبل سنوات، وربما عقود عدة.
وهكذا، لم يبق في وجه الكيان الصهيوني من قوى دول المواجهة المعروفة سوى الجيش العربي السوري، وقوى المقاومة الشعبية في لبنان وفلسطين، وفي حين نرى أن قوى الرابع عشر من آذار في لبنان تتولى مهمة إلهاء المقاومة عن دورها في وجه عدو الأمة، وتتآمر عليها وتشكك فيها ليلاً ونهاراً، بل وتراهن على ضربها من قبل العدو الإسرائيلي والقوى الغربية، كما جرى خلال عدوان تموز 2006، فإن حصار المقاومة في فلسطين جارٍ على قدم وساق، وبمختلف الوسائل، ليبقى الجيش العربي السوري، المصنف رابع عشر بين الجيوش العالمية، حجر الزاوية في هذه المعركة، حيث يقود المواجهة الفاصلة، بعد أن نُقلت الحرب ضده إلى الداخل السوري، فإذا انتصر فيها سقطت كل فصول المؤامرة، وخسر التحالف الغربي ــ الصهيوني ومن يتبعه من الحكام العرب كل رهاناتهم، ونالوا البؤس والهزيمة، مقابل انتصار قوى المقاومة والممانعة في المنطقة، أما إذا هُزم الجيش العربي السوري، وهو أمر شبه مستحيل، لما عُرف عن هذا الجيش من إرادة وتصميم وشكيمة في كل الحروب التي خاضها، كما أنه الجيش العربي الوحيد المتبقي الذي ما زال يحمل عقيدة قتالية قومية، فإن سورية لن تبقى كما هي، وجيشها سيتشظى مثلها، والعرب والعروبة سيصبحان ذكريات، وسترزح المنطقة برمتها تحت سنابك وأحذية التهويد، ويتحول سكانها إلى مجرد عبيد يعملون لصالح مشروع “شعب الله المختار”، الذي يبدو أن بعض العائلات العربية الحاكمة جزء فعلياً منه، بدليل تواطئها مع المشروع الصهيوني منذ أن بدأت أقدام المحتلين الصهاينة تطأ أرض فلسطين.
عدنان الساحلي
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)