هناك ملاحظة مهمة جداً، وذات دلالات واسعة وأساسية، وهي أن حكام الخليج العربي، وتحديداً فيما يسمى (المملكة العربية السعودية) ثم قطر، يرتجفون كلما اقتربت الأزمة السورية على نهايتها، ويبدو أن هناك علاقة وثيقة بين عروشهم وهذه الأزمة، إذ إن جملة ملاحظات مهمة يمكن أن تدلل على ذلك، لكن ما الأسباب الحقيقية وراء هذا الرجفان، وما الأسباب الرئيسية التي تجعل هؤلاء يذهبون إلى نهاية النفق في علاقتهم مع القيادة السورية؟
هل صحيح أن هذه الحكومات، بكل ما تختزنه وتختزله من فردية وديكتاتورية وشمولية وفساد ومحسوبيات وظلم وسرقات أنها تدافع عن حقوق السوريين؟ وهل صحيح أنها تسعى جاهدة إلى ترسيخ مبدأ الديمقراطية ووجود قانون أحزاب، وأنها تريد لسورية ولشعبها أن ينعم بالحياة الرغيدة والحرية الواسعة، وأنها ترمي إلى العمل على تداول السلطة بين قوى سياسية سورية اشتكت لها أمرها؟!!.. لا نعتقد أن مثل هذا الكلام مقبول، وخاصة أن الواقع الذي تعيشه شعوب هذه البلاد، أو هذه الجغرافيا، لا ترتقي الحياة السياسية فيها إلى أدنى الحيوات السياسية لأي من شعوب المعمورة، ولا نعتقد أن من يعيش عقلاً سياسياً يقوم على الفردية وحكم العائلة الواحدة، ومن يسيطر على كامل طاقات البلاد ويختزنها، أو يختزلها، ويعتبر أن المواطنين رعايا لا يمتلكون حقّ التدخل في شؤون البلاد، ومن يرفض أن يشارك الناس معه حتى في إعطاء الرأي في أبسط حقوقه الفردية، وأنه يمارس الحكم بتفويض من الله، لا نعتقد أن كل من فعل ويفعل هذا الفعل يمكنه أن يكون المدافع الحقيقي والرئيسي عن حقوق السوريين، ناهيك عن المقارنة بين الحياة السياسية التي يعيشها السوريون في ظل نظام سياسي حالي وبين الحياة السياسية التي ترزح تحتها شعوب أبناء منطقة الخليج العربي اليوم. كما أننا لا يمكن أن نصدّق بتلك المقولات التي تضخها هذه القيادات وهؤلاء الحكام الخليجيون دفاعاً عن دماء السوريين، وهم الذين يمارسون القتل في أكثر من مكان وأكثر من جغرافيا على مستوى بلادهم، وهم الذين يقفون إلى جانب ملك البحرين في وجه شعبه الذي خرج عليه، وهم الذين ناصروا هذا الملك بآلاف من الجنود لضرب الثورة عليه، بغية الدفاع عن النظام وما يمثله، وهم الذين يقفون في وجه تطلعات أبناء اليمن ويعبثون به، في محاولة منهم لترتيب الداخل اليمني على مقاسات أطماعهم وثبات عروشهم. كما أن هناك من يحاول القول إن موقف حكّام الخليج يندرج تحت مقولة الدفاع عن أهل السنة في سورية، باعتبار أن هناك من يدعي أو يريد أن يصوّر على أن المشكلة في سورية هي مشكلة طائفية، طبعاً أن مثل هذا القول قد يبرره البعض، وقد يعجبه، وقد يدفعه كي يتبناه، إن كان ذلك جهلاً عن دراية أو غير دراية، غير الأمر في كينونته ليس كذلك، باعتبار أن هذه الفرضية لو كانت صحيحة لكان واجباً على هذا الحكومات الخليجية أن تدافع عن السنة الذين نكّل بهم في أكثر من مكان، والذين مورس بحقهم العدوان وقتّل منهم الكثير، وعلى سبيل المثال وليس الحصر لم نجد منظومة النهب الخليجية تدافع عن سنّة العراق، عندما كانت هذه الطائفة تحاصر وتضرب وتقتل من قبل الاحتلال الأميركي، وحين وافقت وسهّلت هذه الحكومات العائلية لدخول الأميركي إلى العراق، حيث دعمته في أقوى ضرباته على أحياء ومناطق السنة فيه، وهي المناطق التي واجهت الاحتلال الأميركي، والمناطق التي جابهت وقاومت هذا الاحتلال! فحكام الخليج هم أولئك الذين شرعنوا للاحتلال الأميركي قتل السنة في العراق، ودفعوا به كي يمارس في حقّهم أبشع أنواع السجون والتنكيل والتعذيب، ولم يعترضوا عليه عندما كان يدك المدن والضواحي والقرى التي يقطنها أهلنا من هذه الطائفة، على العكس تماما، فقد كانت هذه المنظومة الخليجية تعطي الشرعية لهذا الاحتلال كي يكون أقوى وأشرس، من أجل أن يبسط نفوذه على العراق وأهل العراق.. كما أنه علينا أن نتذكّر دائماً أن هذه المنظومة الخليجية هي التي كانت وراء التآمر على أهلنا في فلسطين، وهي التي شرعنت العدوان الإسرائيلي على غزة، وساهمت في الدفاع عن مبارك الذي حاصر غزة، ولم نسمع لأحد منهم موقفاً إيجابياً واحداً دافع فيه عن أهل غزة خلال العدوان عليها، علماً أن أهلنا في فلسطين وغزة هم من رأس السنة العرب في المنطقة. إذاً.. لا نعتقد أن الأمر مرهون بمثل هذا التفسير أو هذا التعليل، بمعنى أن حكام الخليج غير مشغولين لا بحقوق السوريين ولا بحقوق السنة من السوريين، فهؤلاء الحكّام يمتلكون تاريخا، كما بينا سابقاً، لا يمكن له أن يتطابق مع مثل هذه المقولات، أو مثل هذه الأسباب التي يتحدث عنها البعض، أو الذين يعتبرونها هم على أنها أسباب رئيسية لمواقفهم من الأزمة السورية، ناهيك عن دعمهم لهذا الحراك الداخلي السوري، ودفعه كي يمارس القتل ويستبيح الدم، ويكون في مواجهة المنجز حتى اللحظة. نحن نعتقد أن هناك أسبابا سياسية خالصة، ليس لها علاقة بمنظومة القيم، وليس لها علاقة بجملة تلك الأوهام التي يصدرونها للعالم، فهم في الحقيقة يعملون على رئيسية مختلفة تماماً، هذه الرئيسية هي ثابتهم المهم، وهي النقطة التي يتمسكون بها جيداً، بغية الحفاظ على عروشهم.. إذاً.. ما هذه النقطة؟ وما السبب الرئيسي الذي يدفع حكّام الخليج كي يقفوا هذا الموقف من الأزمة السورية؟ للجواب على هذا السؤال علينا أن نربط هذا الموقف بأكثر من مفصل على مستوى المنطقة، وأكثر من واقعة أو حالة أو ظاهرة، وعلينا أن نتصوّر معاً العلاقة بين هذا الحاصل على مستوى هذه المفاصل وبين الحاصل في بعض هذه الكيانات الخليجية، إذ إننا نرى أن هناك رابطاً حقيقياً وموضوعياً بين كثير من الحاصل على مستوى هذه المفاصل ومستقبل هذه الكيانات. إن حكّام الخليج يرون أن الحاصل على المستوى السوري إنما هو ورقة مهمة في أيديهم، وهي ورقة تساهم في حلّ جملة أمور ساخنة في أكثر من مفصل خليجي، لهذا يعتبرون أن الأزمة السورية تشكل عنصر ضغط وإضعاف للمنظومة التي سورية جزء منها، ونعني بها إيران وسورية والحركات العربية المقاومة، ويرون أن القدرة على التأثير في هذا المفصل سوف تساهم في الضغط على هذه المنظومة كي يجبروها على الدخول في مساومات مع ما يحصل على مستوى مفاصل خليجية بعينها، فهم يرون أن الضغط على سورية، وتثقيل الملف السوري باتجاه الضغط على القيادة لسورية، وإشغالها، ثم إضعافها، يدفع هذه القيادة كي تدخل في بازار المقايضة على دور إيراني مفترض يساهم في تسخين مفاصل خليجية بعينها. فحكام الخليج يرون أن إيران هي المسؤولة عن جملة الحاصل على مستوى جغرافيا الخليج، ويعتبرون أن الحاصل في البحرين إنما هي حركة احتجاج طائفية غير مشروعة تدعمها إيران، ويرون أن هذا الحراك يؤسس لدور ضاغط باتجاه مفصل خليجي يتم الاشتغال على إسقاطه ثم الخروج من خلاله على المنظومة الخليجية، كما أن الدور الذي تلعبه إيران في اليمن سوف يدفع باتجاه أن تكون الأخيرة على مضيق (باب المندب)، إضافة إلى الحركة الشعبية الصاعدة في شبه جزيرة العرب التي تستهدف (آل سعود) والتي سوف تساهم في إعادة إنتاج المنظومة من جديدة، ومن ثم فإن هؤلاء الحكّام يرون أن الضغط على سورية والتآمر عليها سوف يؤدي إلى أحد احتمالين: أولا.. إما سقوط الكيان السوري وتفتيته وانكفاؤه على نفسه، ثم ضرب التحالف الإيراني السوري، وردع إيران عن إمكانية التأثير الصاعد في الخليج!!.. ثانيا.. وإما التضييق على سورية من أجل جرّها مع إيران على الدخول في صفقة جديدة، يضمن حكّام الخليج من خلالها ضمانات إيرانية بعدم التدخل في الخليج، وفي تركيبته الحالية. لكننا نعتقد في هذا السياق أن السوريين منذ اللحظات الأولى لم يقبلوا أن يدخلوا في إمكانية المقارنة بين الحاصل على أرضهم، والحاصل في بعض رؤوس كيانات الخليج، كما أنهم رفضوا أن يؤسسوا لمثل هذه الصفقات، ويرون إلى الحاصل في أجزاء من كيانات الخليج على أنه شأن داخلي ليس بمقدور أحد أن يتدخل فيه، أو أن يكون بازاراً لقوى إقليمية أو حتى عربية، وفي الآن ذاته كانوا يبدون مقاومة هائلة ونجاحاً باهراً وهم يكشفون عن هذه الأدوار والتطلعات التي مارسها حكام الخليج، بغية الحفاظ على عروشهم ولو كان السبيل إلى ذلك دماء السوريين جميعاً.