مرة أخرى تثبت المقاومة أنها قادرة على النأي بنفسها عن كل التفاصيل الداخلية التي تثير الكثير من الضجيج والغبار.
مرة أخرى، يوحي المقاومون بأنهم يعيشون فعلاً في عالم آخر، ما فوق الواقع اللبناني، فلا يتأثرون بالصراعات المحلية شمال نهر الليطاني على النفوذ والسلطة والحصص والشارع، ولا يهتمون بالسجال حول السلاح والاستراتيجية الدفاعية وطاولة الحوار وقرار الحرب والسلم، ولا يعنيهم “الجناح العسكري لعشيرة آل المقداد” وغيرها من “العشائر المرقطة”، ولا يهمهم من ينقلب على “معادلة الجيش والشعب والمقاومة”، والأرجح أنهم لا يشغلون بالهم ايضاً بما يجري في سوريا، وحتى بسلوك “حزب الله” في الداخل وما يفعله وزراؤه ونوابه والحلفاء والأصدقاء..
في هذا السياق، خرج الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، في عز الفوضى الداخلية العارمة، ليفاجئ الجميع بمعادلة جديدة ونوعية على مستوى الصراع مع إسرائيل، أظهرت ان هناك عقولاً وزنوداً تعمل بطاقتها القصوى، ليلاً نهاراً، لتطوير توازن الرعب والردع مع العدو، بعدما تفرغت لهذه المهمة، بمعزل عما يجري في الزواريب اللبنانية المفتوحة على كل أنواع الاصطفافات الطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية.
ببساطة، أراد نصرالله أن يقول لمن يهمه الامر في الداخل والخارج إن “الشغل ماشي”، برغم كل التشويش والتهويل، وأن المقاومة مواظبة على تعزيز قدراتها وفق برنامج واضح وثابت، بما يساهم في رفع مستوى الجهوزية الى الحد الاقصى الممكن، في مواجهة التهديدات الاسرائيلية التي تصاعدت مؤخراً.
ولعل الخط البياني لـ”مفاجآت” المقاومة خلال السنوات القليلة الماضية يُبين حجم التطور الذي طرأ على قدراتها وإمكانياتها، منذ حرب تموز 2006، في موازاة تصاعد الحملات الداخلية والخارجية عليها، ما يثبت ان الممسكين بهذا الملف يعزلون أنفسهم عن كل الصراخ الذي يعلو خلف ظهورهم.
وإذا كانت حرب تموز قد انتهت الى تكريس معادلة “تل أبيب في مقابل بيروت”، فإن ما أتى لاحقاً أظهر تراكماً نوعياً في عناصر القوة لدى المقاومة، بدءاً من “تل أبيب في مقابل الضاحية الجنوبية”، مررواً بـ”المبنى في مقابل المبنى”، و”المرفأ في مقابل المرفأ”، و”المطار في مقابل المطار”، و”البنى التحتية في مقابل البنى التحتية”، و”اقتحام المستوطنات الشمالية في مقابل احتلال اراض لبنانية”، وصولاً الى المعادلة المدوية الأخيرة: “التدمير في مقابل التدمير”، و”الجحيم في مقابل الجحيم”.
ومع ذلك، فإن بعض القوى اللبنانية، وتحديداً ضمن “فريق 14 آذار”، لا تجد في “فائض القوة” هذا، ما يطمئن الى الغد، بل ترى فيه “تفرداً برسم الاستراتيجية الدفاعية خلف ظهر طاولة الحوار” و”زجاً للبنان في المجهول وخطر الحرب كرمى لعيون إيران”، و”استقواءً بالسلاح على الشركاء في الوطن”، و”تعزيزاً للدويلة على حساب الدولة”، وما الى ذلك من هواجس هذا الفريق.
حتى ان النائب وليد جنبلاط لم يكن مرتاحاً لخطاب نصرالله في “يوم القدس العالمي”، وهو يستعد للرد عليه خلال الساعات المقبلة، في وقت تشهد العلاقة بينه وبين “حزب الله” أزمة حقيقية، ولو ان الحزب ما يزال يحرص حتى الآن على إبقائها “صامتة”، لدواعي الحفاظ على حد أدنى من تماسك الحكومة في هذه المرحلة، علماً أن علاقة الحزب مع رئيس الجمهورية ميشال سليمان تعاني ايضاً من عوارض الفتور، بعدما تراكمت مؤخراً الملاحظات المتبادلة بينهما.
ويستغرب المعنيون في “حزب الله” المخاوف المفتعلة، لافتين الانتباه الى ان جميع المعادلات التي تطرحها المقاومة هي معادلات دفاعية، يراد منها ليس فقط تحقيق الحد الأقصى المتاح من التوازن خلال أي حرب محتملة، وإنما منع إسرائيل أصلاً من مجرد التفكير بالاعتداء على لبنان، وبالتالي فإن الأمين العام للحزب لم يقل إن المقاومة هي التي ستبادر الى شن هجوم على الاراضي الفلسطينية المحتلة، بل كان واضحاً في تأكيد الطابع الدفاعي للقدرات النوعية التي باتت تملكها، “وهذا الأمر يشكل مظلة حماية للبلد ويفترض أن يشكل عنصر طمأنة للجميع في 14 و 8 آذار على حد سواء، وليس عامل قلق، إذا كانت أداة القياس تنطلق من الاعتبارات الوطنية”.
وبهذا المعنى، يدعو المعجبون بالخطاب الأخير لنصرالله الى التوقف ملياً عند دلالات التهديد باستخدام صواريخ دقيقة ضد أهداف نوعية في الاراضي المحتلة بما يؤدي الى سقوط عشرات آلاف القتلى من الإسرائيليين، في حال حصول عدوان على لبنان، مشيرين الى ان أهمية هذه المعادلة تكمن في أنها تجعل خطر الحرب يبتعد أكثر فأكثر، ليس فقط عن لبنان وإنما عن المنطقة كذلك، خلافاً لما يظنه او يروجه البعض، ممن يفترضون عن سوء نية او سوء فهم أن من شأن كلام نصرالله أن يقود الى حرب طاحنة.
ولعل من ابرز سمات المعادلة الأخيرة أن نصرالله “لعب على الوتر الاسرائيلي الحساس، المتمثل في العنصر البشري الذي يشكل الحلقة الأضعف في تركيبة الكيان الصهيوني”، وبالتالي فإن التلويح بخسائر ضخمة وغير مسبوقة ستصيب المستوطنين، “لا بد من ان يكون له حيزه المؤثر في الحسابات الضمنية للقيادة الإسرائيلية عندما تدرس احتمالات الحرب”.
ولئن كان مسؤولو الكيان الاسرائيلي ومحللوه العسكريون سيمضون وقتاً في تحليل خطاب “يوم القدس العالمي” وفك شيفرته، فإنه يُسجل لنصرالله أنه أجاد مجدداً في حرب الأعصاب عندما أبقى الأهداف النوعية، المرشحة للاستهداف، غامضة ومفتوحة على أكثر من تفسير، تاركاً للمخيلة الاسرائيلية ان تعمل.
عماد مرمل | السفير
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)