تتضارب الأنباء الواردة من مدينة حلب. حيث يؤكد الجيش النظامي أنه أعاد سيطرته على مناطق عدة وقعت في أيدي المعارضة المسلحة في الآونة الأخيرة، وأن الأمن سوف يستتب في غضون أيام بعد “تطهير” المدينة. الجيش الحر من جانبه ينفي هذه الأنباء، ويقول إنه يسيطر على 60 في المئة من العاصمة الاقتصادية لسورية. وتؤكد المعارضة المسلحة أنها سيطرت على حاجز عندان الاستراتيجي على بعد خمسة كيلومترات شمال المدينة.
اللقطات المسربة من حلب تكشف حجم الدمار، والمأساة الانسانية. وحسب تقارير دولية فإن أعداد النازحين عن المدينة تجاوز 200 ألف شخص. ولم تفلح التحذيرات والنداءات الدولية من كل حدب وصوب في منع انتقال المعارك إلى قلب حلب، إذ انتقلت المعارك إلى داخلها وتستخدم فيها مختلف أنواع الأسلحة.
“أم المعارك” وحلم “بنغازي سورية”
المعارضة والحكومة تعتبران معركة حلب “أم المعارك”؛ فالمعارضون يطمحون إلى السيطرة على المدينة الاستراتيجية بموقعها الجغرافي، وثقلها الاقتصادي والبشري. ويسعون إلى تحويلها لـ “بنغازي سورية”. وفي حال قدّر ان تسيطر المعارضة على حلب فإنها بذلك ترسم حدودا لمنطقة عازلة على الأرض تفرض بالأمر الواقع، وتمتد إلى ادلب وجبل الزاوية ومناطق من حماة بمحاذاة الحدود التركية. وتسهل هذه المنطقة العازلة التزود بالسلاح من تركيا، وتسمح ببدء هجوم مضاد على مناطق أخرى.
النظام من جانبه لا يمكن أن يقبل بخروج حلب عن سيطرته. ويدفع بقوات إضافية من أجل تكرار تجربة دمشق في قمع المسلحين وإخراجهم من أحياء المدينة. ويدرك النظام تبعات فقدان المدينة ولهذا فإنه لن يدخر أي جهد في معركته الحالية.
موقع حلب يجعلها مفتاحا للسيطرة على معظم مناطق الشمال السوري، ويفتح باتجاهات الشرق والغرب. لكن حلم “بنغازي” المحقق من الجهة الغربية والجنوبية يجد استعصاءات في المناطق الشرقية. فالمعارضة تسيطر على مناطق واسعة في إدلب وحماة ويمكن أن تنضم إلى حلب، لكن المناطق الشرقية باتت خارج سيطرة النظام وانتقلت إلى سيطرة مجموعات كردية مسلحة منها حزب العمال الكردستاني، والمجلس الوطني الكردي.
ورغم تضارب الأنباء عن تسليم النظام مناطق واسعة للمنظمات الكردية الموالية له، أو اضطراره للانسحاب لحشد مزيد من القوات لمعركة حلب الحاسمة، فإن تبعات سيطرة أحزاب كردية على هذه المناطق سوف تتجاوز قضية حسم معركة حلب، وتتعداها إلى التأثير في مستقبل سورية عموما بغض النظر عن هوية المنتصر معارضة كان أم حكومة.
تدخل تركيا…
ترفض تركيا الاقرار بأنها تشارك عسكريا في سورية، رغم ايوائها عناصر الجيش السوري الحر، وتوارد التقارير والأنباء عن وجود غرفة عمليات تركية-سعودية- قطرية سرية لتقديم مساعدات حيوية عسكرية وفي مجال الاتصالات لمساعدة المعارضة السورية من مدينة قريبة من الحدود بين البلدين.
لكن سيطرة الأكراد على المناطق الشمالية المحاذية للحدود يمكن أن يغير من مزاج الأتراك في فترات لاحقة. وقد تدخل تركيا على خط الأزمة عبر التدخل العسكري لمنع هجمات حزب العمال الكردستاني. وتتواتر أنباء عن حشود تركية على طول الحدود، وفي آخر تصريحاته أكد وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو أن بلاده لن تسمح بوجود القاعدة أو جماعات مسلحة على حدودها.
وتجد تركيا نفسها في موقف صعب فمن جهة بات طلاقها لنظام الرئيس بشار الأسد بائنا مع انقطاع حبل الود، وعدم وجود أي أمل لعودة العلاقات إلى طبيعتها. وفي ذات الوقت لا ترغب أنقرة في خوض حرب في مناطقها الجنوبية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية، لكنها تخشى من تزايد نشاط حزب العمال الكردستاني، ما قد يفرض عليها تدخلا عسكريا يدخلها في حرب استنزاف، ويؤثر في علاقتها مع إقليم كردستان العراق، والأهم أنه يمنح نظام الأسد فرصة لجمع صفوف كل رافضي التدخل الخارجي للقتال معه.
أفق الحل السياسي و”أم المعارك”
دعت المعارضة السورية إلى عقد جلسة لمجلس الأمن، ومن المقرر عقد جلسة للمجلس مساء 30 يوليو/تموز الحالي لمناقشة الوضع السوري. ولا تظهر في الأفق أي ملامح لتوافق دولي في الموضوع السوري، مع تباين اصطفاف موسكو وبكين من جهة والبلدان الغربية من جهة أخرى مع طرفي الصراع.
وتضعف امكانية انعاش خطة المبعوث المشترك كوفي عنان مع عدم وجود آليات واضحة للتنفيذ، وإلقاء كل طرف بالمسؤولية على الآخر في عدم تنفيذ مبادرة عنان ذات النقاط الست. وتسارعت أطراف إلى نعي خطة عنان، فيما تؤكد الحكومة السورية التزامها بالخطة، وبين هذا وذاك يبدو أن أصوات طبول الحرب من حلب شمالا إلى درعا جنوبا مرورا بإدلب وحماة وحمص وريف دمشق تبرز ضرورة التوافق الدولي على تنفيذ خطة عنان، أو الخروج بخطة طوارئ سريعة وعاجلة تجنب سورية مزيدا من الدماء والدمار.
أم المعارك تلد حروبا لن تنتهي سريعا…
دخلت دمشق بقوة على خط الحراك المتواصل منذ مارس/آذار 2011، واستطاع النظام احباط “زلزال دمشق” الذي تلا استهداف خلية الأزمة، لكنه لم يستطع فرض سيطرته كاملة على مناطق واسعة من ريف دمشق.
ومنذ عشرة أيام قفزت حلب إلى واجهة الأحداث بعد شهور طويلة من الهدوء، تلاه احتجاجات سلمية، ثم تحول لصراع مسلح بين الحكومة والمعارضة.
الوقائع على الأرض والاستعدادات تشير إلى صعوبة حسم المعركة سريعا عكس رغبة الطرفين. وأيا كان الطرف الرابح في “أم المعارك” فإن هذه الحرب سوف تلد معارك كثيرة تنتشر في جميع أنحاء سورية.
وتعيش سورية في هذه الأيام حربا حقيقية لن تجلب إلا الدمار. وسوف يجد الطرفان معارضة وحكومة أنه ما من مفر إلا بالتفاوض في حال الرغبة بالمحافظة على وحدة أراضي سورية، ومنع تفككها إلى دويلات على أساس إثني وطائفي، ومنع انتشار الموت والدمار في كل مكان.
سامر الياس
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)