أربعة أيام فصلت بين الخطاب الذي ألقاه الرئيس السوري بشار الأسد في جامعة دمشق وبين الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ، وما بينهما زيارة قام بها كل من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ووزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى بيروت. وقد لا يوجد ارتباط زمني بين هذه المحطات، ولكن الارتباط فرض نفسه في هوية الأشخاص وخلفيات مواقفهم وسياساتهم. وشكّلت مواقف الرئيس الأسد والسيد نصر الله خارطة طريق سياسية لمستقبل المنطقة لما تضمنته من رسائل ومبادرات، عنوانها عدم مراهنة العرب وغير العرب على متغيّرات موهومة أو الانسياق وراء تصريحات وتهديدات غير واقعية، خصوصاً في ظل انعدام الأفق السياسي والعسكري لدى الغرب ولدى واشنطن على وجه الخصوص.
ثوابت الأسد العربية
أطلق الرئيس الأسد من دمشق جملة مواقف استراتيجية أكد فيها والشعب السوري على صموده وانتصاره “القريب جداً” على تدخل الخارج، الذي “مع كل أسف أصبح هذا الخارج مزيجاً من الأجنبي والعربي”، واعتبر أن الجامعة العربية أصبحت “مرآة لحالتنا العربية المزرية، التي لم تستطع أن تعيد شجرة زيتون واحدة اقتلعتها “إسرائيل”، أو منعت تقسيم السودان أو حالت دون مقتل أكثر من مليون عراقي أو أطعمت جائعاً في الصومال..”، مؤكداً أن “الجامعة بلا سوريا تصبح عروبتها معلّقة..ولن تكون لا جامعة ولا عربية وإنما ستكون جامعة مستعربة لكي تتناسب مع سياساتهم ومع الدور الذي يقومون به على الساحة العربية..”.
وأعلن الأسد التزامه بالمضي في مسيرة الإصلاح السياسي والإجتماعي والإقتصادي دون الإذعان لمشيئة إرهاب الداخل والخارج، مشدداً على رفضه “معارضة تجلس في السفارات أو تأخذ المؤشرات من الخارج أو تجلس معنا وتبتزنا تحت عنوان الأزمة لتحقق مطالب شخصية، أو معارضة تحاورنا بالسر كي لا تغضب أحداً..”، وأكد أن نقاط قوة سوريا “هي الموقع الاستراتيجي وإذا أرادوا أن يحاصروا سورية فسيحاصرون معها منطقة كاملة..”.
سعادة السيد نصر الله
ومن بعلبك أطلق السيد نصر الله جملة مواقف أعاد فيها التأكيد على ثوابت المقاومة في ما يتعلق بالملفات الداخلية والخارجية، وفي مقدمّتها التمسّك “وبشكل حازم وقاطع وبيقين ليس بعده يقين، بخيار المقاومة، بنهج المقاومة، بطريق المقاومة وبسلاح المقاومة، لأن هذا الخيار، هذا الطريق، هذا السلاح، إلى جانب الجيش والشعب، هو الضمانة الوحيدة لأمن لبنان وحماية لبنان وكرامة لبنان وسيادة لبنان”.
قد لا يكون هذا الموقف للسيد نصر الله جديداً، ولكنه جاء هذه المرة قريباً جداً من مسامع بان كي مون الذي كان يجري مباحثات سياسية متعثّرة، وكان يعزّي نفسه بابتسامات لبنانية فرضتها اللياقات الدبلوماسية، ولكنه لم يجد فعلاً سوى كلام أجمع بشكل وبآخر على ضرورة أن يقوم بواجباته على رأس الأمم المتحدة بالعمل على تطبيق قرارات الجمعية الأممية، ولكنه كان في كل مرة يصرّ على ترداد الموقف الذي كُلّف أن يبلغه إلى المسؤولين اللبنانيين حول سلاح حزب الله، فجاءه الرد سريعاً على لسان السيد نصر الله: “قلقك، يا حضرة الأمين العام، يطمئننا ويسعدنا.. ما يهمّنا هو أن تقلق وأن تقلق أمريكا من ورائك وأن تقلق إسرائيل معك.. هذا لا يعنيننا على الإطلاق.. همّنا أن يطمئن أهلنا وشعبنا ونساؤنا وأطفالنا وكبارنا وصغارنا أنّ في لبنان مقاومةً لن تسمح بسبيٍ جديد ولا باحتلال جديد ولا بانتهاك جديد للكرامة.. وأنا أقول له ولكل العالم: هذه المقاومة الجهادية المسلّحة باقية ومستمرة ومتصاعدة في قوتها وقدرتها وجهوزيتها، وتزداد إيماناً ويقيناً بصوابية خيارها”.
بان و”إسرائيل”
لم يجد بان كي مون في زيارته إلى لبنان شيئاً يستطيع أن يعتبره حجر أساس ليبني عليه تصوّراً جديداً بشأن التعاطي مع قضية سلاح حزب الله، وهو الملف الأول والوحيد الذي جاء من أجله، حتى أن ملف المحكمة الدولية لم يجد طريقاً إلى بنود مباحثاته مع المسؤولين اللبنانيين إلا لماماً، وحين لم يجد أي نور في آخر النفق بادر إلى تبديل لغته الدبلوماسية ليحدّد ماهية وظيفة الجنود الدوليين في الجنوب بترتيب اتفاق بين القوات المسلّحة اللبنانية و”الإسرائيلية”!!، وبما أن هذا الموقف لا ترجمة واقعية له كان لا بد له من أن يجعل من زيارته ذا قيمة فاندفع ليتحدث عن سوريا ويطالب الرئيس الأسد بوقف “عمليات قتل شعبه”.
ولئن استحوذ هذا الموقف على اهتمام وسائل الإعلام بكونه انطلق من بيروت، إلا أنه لم يجد له صدى عند المسؤولين اللبنانيين الرسميين، ولا سيما رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي أعاد التأكيد على ضرورة أن تقوم الأمم المتحدة بواجباتها في تنفيذ القرارات الدولية، مطالباً إيّاه بالعمل على الحد من الخروقات الإسرائيلية المستمرة للسيادة اللبنانية، وأن للبنان الحق باستخدام كل الوسائل المتاحة لتحرير ما تبقى من أراضٍ محتلة من قبل العدو الإسرائيلي.
خيبة أوغلو في بيروت بعد طهران
لم يكن لزيارة بان كي مون الوهج الكافي للتغطية على زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى بيروت، وهو الذي سمع كلاماً إيرانياً واضحاً، سواء خلال زيارته إلى طهران أو خلال ردّ الزيارة لرئيس مجلس الشورى الإيراني الدكتور علي لاريجاني إلى أنقرة، حيث كان في خلد الرجل أن تركيا قد وصلت إلى مرحلة تستطيع أن تفرض معادلة سياسية جديدة في المنطقة، ولكنه لم يلقَ في طهران سوى برودة تجاه طرحه السوريالي، ونصيحة بالالتفات إلى ترتيب البيت السياسي الداخلي لتركيا، والتركيز على تحسين العلاقات الاقتصادية المشتركة بين إيران وتركيا، وعدم الانسياق وراء أمنيات غير واقعية بتغيير النظام في سوريا.
ظن أوغلو أن لبنان في ظل الأوضاع الأمنية الراهنة في سوريا قد أصبح خاصرة رخوة، فجاء يسوّق لنصائح ويبلّغ رسائل وتحذيرات، في اقتباس وتقليد تام للدور المصري أيام حكم مبارك البائد، ولم يحسب بأن لبنان قد اعتاد هذا النوع من الحركات السياسية المكشوفة، وبات محصّناً نفسياً ومعنوياً وسياسياً وعسكرياً إزاء أي رسالة تحمل تهديداً، مبطناً كان أو ظاهراً، والموقف الأوضح سمعه أوغلو من حزب الله على لسان رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد الذي أفهم محدّثه بأن عرى العلاقة بين لبنان وسوريا وإيران والعراق اليوم لا تتأثر بحوادث أمنية عابرة لن يكون لها أي تأثير على خارطة المنطقة.
رسالة السيد إلى أنقرة وما بعد بعد أنقرة
أما الموقف الأكثر وضوحاً هو ما أعلنه السيد نصر الله الذي دعا “من موقع الحرص والمحبة لسورية لشعبها وجيشها وأهلها وقيادتها وكل من فيها وما فيها، المعارضة السورية في الداخل والخارج إلى الاستجابة لدعوات الحوار من قبل الرئيس الأسد والتعاون معه لإجراء الإصلاحات.. وإعادة الهدوء والاستقرار وإلقاء السلاح ومعالجة الأمور بالحوار”. ولم يفت السيد نصر الله أن يبلّغ أوغلو، ومن يعنيه الأمر في أنقرة وما بعد بعد أنقرة، بأن الواجب اليوم هو أن “تجتمع جهود الدول العربية وجامعة الدول العربية ومعها دول إسلامية مؤثرة في المنطقة وفي مقدمتها الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا، للمساعدة على إنهاء الأزمة السورية، وليس على تسعير النار وعلى حشر الناس في الزاوية وعلى دفع الأمور إلى الانفجار”.
بقلم محمد الحسيني