صباح يوم نشر الجزء الأول من لقاء الرئيس السوري بشار الأسد مع صحيفة “جمهورييت” التركية كان أول انطباع أراه، وقبل أن أقرأ الحوار نفسه، هو تعليق في أحد المجتمعات الافتراضية لصحافية تعمل في صحيفة شديدة المعارضة لحكومة العدالة والتنمية، حيث كتبت تقول: «بطباعه الهادئة تمكن الأسد من حشر “أردوغان” وفرقته الموسيقية في الزاوية».
وما حدث فيما بعد أثبت أن مكتب رئيس الوزراء، عندما عمل على منع الصحافيين الأربعة الآخرين من مقابلة الأسد، كان يمتلك تصوراً حقيقياً عما سيقع.
لقد أظهر الرئيس بشار الأسد قدرة فائقة على مخاطبة الكتل الشعبية واستدراج تعاطفها. ومن الملاحظ أنه تقصد استخدام عبارات وكلمات مفتاحية غير متداولة سابقاً في الساحة السياسية التركية.
وبهذه الطريقة تمكن من ارباك الحامية الإعلامية لحكومة “أردوغان” عبر ضربها في مواقع لم تكن تتوقعها، إضافة إلى كسر التعتيم المفروض على حديثه عبر الكلمات التي جذبت بجدتها اهتمام المواطن.
ومن أبرز الأفكار التي أتى بها حديثه
* ما الذي استفادته سورية من اسقاط الطائرة؟
* الحكومة التركية منعت الجيش التركي من اجراء اتصال مع سورية.
* أثبت بواقعة حربي غزة ولبنان طائفية سياسة “أردوغان”
* تأكيده على الصداقة اتجاه الشعب التركي المعارض للحرب رغماً عن حكومته.
* إشارته إلى العمليات المستمرة ضد حزب العمال الكردستاني.
* إضافة إلى ثالثة الأثافي وهي تأكيده أن “أردوغان” لم يعد موجوداً في المنطقة لا هو ولا مكانته. والذين يعلمون طباع “أردوغان” من حيث هوسه العثماني واستماتته، التي تكاد تكون مرضية، على البقاء في دائرة الأضواء أدركوا بسهولة أن التأكيد الأخير للرئيس الأسد، إلى جانب صوابيته، كان ضربة قاسية جداً. ومعاونه السابق “عبد اللطيف شنر” كان قد أكد في لقاء سابق له هذه الخصلة، وقال أن رئيس الوزراء يمتعض عندما يكون أحد سواه، ولو كان من أفراد فريقه، محط الأنظار، وأنه لم يكن قادراً على اخفاء امتعاضه. ويمكن بسهولة إذن تخيل حالته عندما يصرح أحد أكبر خصومه بثقة وبهدوء أنه لم يعد موجوداً في الساحة.
لقد سبب نشر الجزء الأول من المقابلة حراكاً كبيراً على مستوى تقييم أداء السياسة الخارجية التركية. وتصدر العناوين، وقامت وكالات الأنباء بإعادة نشر اللقاء كاملاً، أو على الأقل مقتطفات مطولة منه.
ولكن اليوم التالي، عند نشر الجزء الثاني، شهد ظاهرة غريبة تتمثل في اتفاق أغلب وسائل الإعلام الموالية لحزب العدالة الحاكم على اهمال اللقاء، والاكتفاء بنشر خبر مقتضب عنه، ويكاد النص يكون متماثلاً في أغلبها، وكذا في الأيام التالية.
لكن المفردات الجديدة التي أتى بها الأسد وجدت طريقها إلى المواطن بسبب جدتها، ولعدم قدرة الإعلام الموالي على دحضها. ويمكن استنتاج ذلك بسهولة من خلال متابعة التعليقات في المجتمعات الافتراضية، حيث حفلت بتعليقات شديدة السخرية من “أردوغان” وفريقه.
وقد بدأ عدد من الصحافيين فوراً بتفنيد رواية الرئيس الأسد لتفسير سقوط الطائرة. كما رأى البعض في عبارة “كنت أتمنى ألا تسقط الطائرة” اعتذاراً ضمنياً منه، وهو ما كان يعني نصراً حقيقياً لأردوغان فيما لو كان صحيحاً لكن الانتقادات الشديدة غير القابلة للرد من الرئيس الأسد في الأيام التالية أزالت هذا التصور.
وبدأ عدد من الصحافيين الموالين بالحصول على أخبار حصرية من “مصادر مطلعة” لتشويه صورة الرئيس الأسد، واضعاف أثر حديثه، فبعد تناوله لموضوع حزب العمال الكردستاني أفرد موقع إخباري مساحة لما سماه “المؤامرة السورية الكبيرة التي تم اكتشافها”، وهي قيام سورية، على ذمته، بدعم وتسليح حزب العمال للقيام بعمليات ارهابية في تركيا، علماً أن هذه المؤامرة اكتشفت من قبل الصحافة التركية ما لا يقل عن عشرين مرة منذ بدء الأزمة الحالية بين البلدين.
أثر كلمات الرئيس الأسد تعاظم باطراد، فأمام الارباك الحاصل في جبهة حزب العدالة الحاكم اقتبس الصحافيون المعارضون الكثير من آرائه ليبنوا عليها نقدهم للسياسة الخارجية. ولم يكن أمام “أردوغان” إلا أن ينعت هؤلاء الصحافيين بكلمة “المباعون”
وزير الخارجية ينفجر حنقاً
نشرت الصحافية “أصلي أيدنتاشباش” من صحيفة “ملييت” مقالاً عن حديث جرى على متن الطائرة بينها وبين وزير الخارجية “أحمد داوود أوغلو” تحت عنوان “هل تنامون مرتاحين؟”.
ومما جاء فيه: «إنه متعب لأنه بينما كان يخضع لعملية في أسنانه أسقطت سورية الطائرة التركية، وتبعها اجتماعات مطولة مع هيئة الأركان والاستخبارات ووزارة الخارجية، ومن بعدها مؤتمر جنيف، فمؤتمر المعارضة السورية في القاهرة.
وبعد نوم قصير لبضعة ساعات طار إلى باريس لحضور مؤتمر أصدقاء سورية. وبنفس الوقت فإن وزير الخارجية حزين ومكسور الخاطر. لقد أرهقه عدم التفات اليساريين والليبراليين وحتى بعض المثقفين الإسلاميين للقضية السورية، إذ أنهم بدلاً عن انتقاد ظلم البعث يقومون بانتقاد الحكومة.
وحينما أتى فوقها حديث بشار الأسد مع صحيفة “جمهورييت” فقد انفجر في الطائرة بمعنى الكلمة» وتوجه لمنتقدي أداءه في الموضوع السوري بالقول: «أنا أنام مرتاحاً، فهل أنتم أيضاً تنامون مرتاحين؟»
وجاء الرد من الصحافي “أوزكور مومجو” من صحيفة “راديكال” الذي كتب مقالاً ساخراً تحت عنوان “نوم داوود أوغلو العميق” في إشارة إلى كتابه “الاستراتيجية العميقة”، والذي يعتبر دليل عمل السياسة الخارجية لحكومة العدالة، فقال: «طالما أن رئيس الوزراء ينعت معارضي سياسته في سورية بالمباعين فإنني وطمعاً ببعض المكاسب المادية من الأسد أو بوتين سأقوم بنقد سياسة تركيا في سورية» وقارن بين سياسة حزب العدالة في سورية وسياستها في السودان حيث لا تلتفت للمشاكل الداخلية فيها، ولا تعير أذناً صاغية، كما يتمتع الرئيس البشير فيها بحصانة فوق كل الشبهات برأيه.
صحافيون يتراجعون
الصحافي “فكرت بيلا”، بعد نشر الحوار مع الأسد، كتب مقالاً بعنوان “دفاع الأسد ليس مقنعاً” ولكنه على مدى يومين (8 و9 تموز 2012) عاد فخصص مساحة للقاءات مع وزير الدفاع ومع رئيس دائرة الاتصال في هيئة الأركان العامة، واعترفا بعدم وجود صور رادارية تؤكد أن الطائرة ضربت بصاروخ وليس بمدفع مضاد للطيران، كما قال الأسد في حديثه.
وليستنتج في اليوم الثالث أنه لم يحدد بعد كيفية سقوط الطائرة رابطاً الأمر بوعد مفتوح بعرض النتائج فور اكتمال التحقيقات، والتي نعلم أنها لن تكتمل في المستقبل المنظور عملاً بـ “التقاليد الراسخة” منذ استلام “أردوغان” الحكم.
الصحافي “فهمي كورور” مقرب من “أردوغان” ويعد “رفيق طريق” له منذ أيام شبابهما. ويمكن القول أن له وضعاً يشبه وضع محمد حسنين هيكل لدى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر… حتى هذا الصحافي كتب ينتقد ضمناً السياسة الأردوغانية في الشأن السوري.
فكتب تحليلاً بعنوان “التوازنات المتغيرة لا يجب أن تتغير مرة أخرى” ومما جاء فيه: «بدأ العمل بهدف تغيير التوازنات في سورية، لكن سورية على الأرجح هي من يغير توازنات العالم، ذلك أن نظام البعث أثبت قوة ومناعة كبيرة» ودعا “كورو” إلى التعامل مع حزب البعث في سورية كأمر واقع.
وفي مقاله “لا يجب أن تكون الحرب هي الطريق الوحيد”، دعا “داوود أوغلو” إلى تقبل الانتقادات الموجهة له، وأعرب عن إيمانه بأن وزير الخارجية سيستطيع صياغة سياسة خارجية تربك نظام الأسد ولكن دون سفك المزيد من الدماء.
كذلك نشرت صحيفة “راديكال” ملحقاً بعنوان “سقوط تصفير المشاكل”، حيث رأت أن سياسة “تصفير المشاكل مع الجيران”، التي أتى بها “داوود أوغلو” في كتاب “الاستراتيجية العميقة” المذكور، قد سقطت كلياً.
ورأت أنها لم تكن سياسة واقعية وإنما أسلوباً لتصفية الحساب مع الفكر الكمالي عبر السياسة الخارجية بدلالة أنه لم يبقى لتركيا جار ليس هناك مشاكل معه.
سيريان تلغراف