Site icon سيريان تلغراف

من صنع الأسيرية؟

تكثر النظريات حول حقيقة ظاهرة أحمد الأسير. ولا تندر بينها نظريات المؤامرة، مثل كل مسألة عند العرب، منذ قال عنهم ابن خلدون أنهم يستطربون كل مستغرَب. أما السبب فهو غالباً رفض الاعتراف بالأمر الواقع، لأن في ذلك رفضاً للاعتراف بمسؤوليتنا عنه وعن تخلفه وعن جاهليته. هكذا تصير النظرية ــ المؤامرة نوعاً من دفاع واع أو لاواع عن الذات. مرافعة في محل دفع التهمة عن حالنا في علة مصائبنا ومآسينا.

ثمة من يقول إن الأسير ظاهرة مخابراتية، فبركتها أجهزة أمنية لبنانية. وفي سياق تلك النظرية يقول أصحابها إن الهدف من الأسير كان «الحرتقة» على التيار الحريري من جهة، و«خردقة» الحالة السلفية من جهة أخرى، وإن الأمر كان مدروساً ومضبوطاً، خصوصاً لجهة مكان توليد الظاهرة، في صيدا، أي بعيداً عن خطوط الدعم الخارجي لأي حالة سنية مماثلة، بما قد يحولها مسألة متفلتة من أي قيود أو ضوابط. في طرابلس أو عكار أو البقاع الأوسط، هي الحالات السلفية على تماس مباشر مع العمق السوري. تتفاعل معه فكراً وبشراً ولوجستية، ما يجعل منها أكبر من لبنان ومن القدرة على ضبطها. أما في صيدا فالأسيرية، وفق النظرية نفسها لا غير، معزولة محاصرة، يكفيها كما يقول بعض المعنيين، «شلة من شباب الحارة» ــ أي حارة صيدا ذات الثقل الشيعي ــ لتطويقها متى أريد ذلك. ويدلل أصحاب هذه النظرية أيضاً على صحتها بكلام الأسير نفسه عن علاقات قائمة بينه وبين أمنيين، وبسكنه في ذلك المنزل العالي في شواليق، قضاء جزين، وسط عمق أمني يفترض ان يكون مختلفاً عن العمق الأمني المنسجم مع «إمارته» أو المتطابق مع «دعوته» ومريديه.. حتى إن بُعد المؤامرة في هذه النظرية يذهب أكثر، حتى «ازدواج العمق»، على طريقة حقائب التهريب.، فيقول أصحابها إن بعض الأهداف المخابراتية من خلف فبركة الظاهرة الأسيرية، ليس بعيداً عن تطويق «حزب الله» نفسه، أو مجرد «تمريكه» بلغة كرة القدم، تماماً كما يقال إن الأجهزة الأمنية اللبنانية «فبركت» و«ولدت» حركات شبه أصولية في الساحة المسيحية، يوم كانت المعركة الأمنية في مواجهة السلاح الفلسطيني…

نظرية أخرى لا تقطع خطوط الوصل وصرر التوليد بين الأسير والفريق الحريري نفسه، يقول أصحابها إن القيادة الحريرية هي من شجعت بشكل تحايلي وملتبس، على قيام تلك الظاهرة في بعض بداياتها، تماماً كما يحلو لأصحاب هذه النظرية سرد الأخبار المستغربة عن علاقة الحريرية بجند الشام وبشاكر العبسي و«فتح الإسلام» وبكل الحالات السنية الأصولية على الساحة اللبنانية وخارجها. وإذ تستهول هذا الخيال في التعليل والتفسير، يأتيك من يذكرك بألسكندر أدلر ورأي الاستخبارات الفرنسية بعد 24 ساعة على اغتيال رفيق الحريري، بأن حقيقة اغتياله مرتبطة بعلاقاته المتشعبة مع الحالات السنية الأصولية وصولاً إلى العراق، ومحاولته استيعابها وحرفها عن مقاومة الاحتلال الأميركي لبغداد، واحتواءها في إطار مشروع بوش لتلك البلاد وللمنطقة برمتها.

في كل الأحوال، يقول أصحاب هذه النظرية إن الفريق الحريري كان مستفيداً أول من الظاهرة الأسيرية في بداياتها. يكفيه التدليل بواسطتها إلى المعادلة التالية: «أنا أمثل الاعتدال السني. والبديل عني في هذه الساحة هو التطرف. فيما حزب الله هو من يمثل التطرف الشيعي، والبديل عنه في ساحته هو الاعتدال، فما عليكم إلا المقارنة والاختيار»…

تبقى نظرية ثالثة هي أن الأسير صناعة خارجية، وهو قول سهل الإطلاق، من دون أي أدلة ولا تفاصيل، فالمناخ السائد من حولنا يجعل أي كلام من هذا القبيل ممكن التصديق، والمشاجب لتعليقه أكثر من أن تحصى، بين قطر أو السعودية أو حتى تركيا أو الأممية الإخوانية أو حتى غيرها.

نقطة واحدة يجمع عليها أصحاب النظريات المختلفة، تلك المذكورة كما سواها، وهي أن «الفرخ» الذي تم توليده قد تحول إلى «مسخ» يهدد بابتلاع معلمه، تماماً مثل كل السيناريوهات الجوراسية، قبل سبيلبرغ وبعده.

لكن ما لا تلحظه النظريات تلك هو احتمال أن تكون الظاهرة الأسيرية مولوداً طبيعياً لدينامية تلاقحية عادية، بين ثلاثة مكونات: الدوغماتية، والفقر، والقمع. علماً أن لكل من تلك المكونات نماذج غير نمطية، تجعل من مروحة النسيج الرحمي لولادة كهذه واسعة جداً، فالقمع قد يكون حقيقة أو مجرد انطباع، والفقر ليس في المادة وحدها، بل أيضاً في المعرفة وحدودها وآفاقها. أما الدوغماتية فمفتوحة أيضاً على أن تكون رجعية ثابتة، أو مخاضاً صراعياً رفضياً مع حداثة حتمية الحصول، كما يبشر إيمانويل تود.

في كل الأحوال ليس الحل مع تلك الظواهر في الصمت ولا في الإسكات ولا في التجاهل.. إلا إذا كان ما ندّعيه نحن من حداثة وديموقراطية وعصرنة، في درك أكثر «أسيرية» .

سيريان تلغراف | الاخبار

Exit mobile version