نشرت صحيفة “موسكوفسكيه نوفوستي” مقالة للمحلل السياسي فيودور لوكيانوف طرح فيها رؤيته لاحتمالات تسوية الأزمة السورية.
يرى لوكيانوف أن الأزمة السورية، انتقلت إلى مرحلة جديدة من الصراع إذ عادت الاشتباكات من جديد المسلحة، ولم يعد مهما تحديد الطرف الذي جر البلاد إلى ما وصلت إليه بل يجب البحث عن وسيلة لإيقاف تلك الاشتباكات. وذكر أن تزايد حدة تلك الاشتباكات يمثل ورقة إضافية في أيدي مؤيدي التدخل العسكري، لسحب البساط من تحت أقدام المطالبين بالحل الدبلوماسي. علما بأن إسقاط النظام عن طريق شن عملية عسكرية واسعة النطاق، كما جرى في ليبيا، أمر غير قابل للتطبيق، لأنه يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن. واستصدار قرار بهذا المضمون غير ممكن نظرا للمعارضة الشديدة التي تبديها روسيا. ولا تلوح في الأفق حتى الآن بوادر استعداد لخوض مثل هذه الحرب دون تفويض من الأمم المتحدة، على الرغم من التصريحات النارية التي يطلقها الساسة الغربيون والعرب. فلذلك، هناك سيناريوهان اثنان:
الأول: تقديم مساعدة عسكرية قوية للمعارضة السورية تمكنها من تحقيق نصر عسكري على الأرض. لكن ذلك يتطلب اعترافاً دولياً بالمجلس الوطني السوري كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري كما حصل في شهر آذار/مارس من العام الماضي، عندما اعترفت فرنسا ومن ثم قطر بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي، الأمر الذي مهد لتقديم إمدادات غير محدودة للمعارضة، بالإضافة إلى مختلف أشكال الدعم للمسلحين الليبيين. وهذا عملياً يعني الانزلاق نحو حرب أهلية، من الممكن أن تمتد لفترة طويلة. ففي ليبيا كانت الضربات الجوية من قبل طيران حلف الناتو العامل الرئيسي في حسم المعركة، وليس هجمات المعارضين للقذافي. أما الجيش السوري، وعلى الرغم من الضعف الذي أصابه بسبب انشقاق بعض ضباطه وجنوده، إلا أنه أقوى نوعيا من الجيش الليبي بما في ذلك من ناحية المعدات التقنية. كما أن الأسد لا يزال يتمتع بدعم كبير في البلاد.
السيناريو الثاني: عملية دولية سياسية ـ دبلوماسية تهدف إلى استحداث نموذج جديد للحكم في سورية. وكمثال على ذلك غالباً ما يستشهد بالسيناريو اليمني الذي بمقتضاه استقال الرئيس علي عبدالله صالح مقابل منحه حصانات قانونية. لكن تطبيق هذا السيناريو في سورية محفوف بمصاعب كبيرة، حتى إذا وافق بشار الأسد على ذلك. ذلك أن التركيبة الطائفية في سورية معقدة. ولن يكون كافيا تقديم ضمانات للأسد وحاشيته المقربة، بل لا بد من ضمان أمن الأقليات الدينية والعرقية، التي سوف تصبح هدفا للثأر والانتقام، عندما تستولي الأكثرية السنية على السلطة.
من هنا فإن السيناريو الأكثر قابلية للتطبيق في سورية هو ذاك الذي رسمته اتفاقية دايتون لعام 1995 التي أنهت حربا في البوسنة، استمرت طيلة 3 سنوات.
يجب الاعتراف بأن هذه الاتفاقية، تعرض للنقد منذ أن تم التوقيع عليها، لأنها لم تجد حلولا للمشاكل السياسية. لهذا لا تزال جمهورية البوسنة والهرسك عبارة عن كيان اصطناعي، لا يضمن استمرارية وجوده إلا نظام الحماية والانتداب.
لا شك في أن هذا النقد محق إلى حد بعيد. لكن يجب الاعتراف بأن اتفاقية دايتون، التي حولت تلك الجمهورية إلى كانتونات تحت إشراف دولي، أوقفت حربا شرسة، بثت الرعب والهلع في قلوب الأوربيين. وبفضل هذه الاتفاقية، لا يزال السلم قائما هناك منذ 17 عاما.
وكانت التسوية البوسنية حالة استثنائية لا تشبه ما قبلها، لأنها جاءت عقب انتهاء الحرب الباردة – أي أنها تمت في ظل غياب حالة التوازن المعتادة، بين القوى والأيديولوجيات الدولية. وبالتالي ظهر فيها نموذج جديد من نماذج تسوية الصراعات المحلية والطائفية. وهو نموذج لا يستند إلى البحث عن حلول وسط (كما حدث في قبرص على سبيل المثال) بل يقوم على إرغام أحد الطرفين، على القبول بقرارات تمليها القوى الخارجية، أي الغرب تحديدا.
في أزمة البوسنة وُجهت أصابع الاتهام سلفا إلى الصرب كطرف مذنب في الصراع. لهذا مورست عليهم الضغوط لإرغامهم على قبول ما يُملى عليهم. لقد كانت هذه الطريقة في معالجة الأزمات مبتكرة وحديثة الظهور في ذلك الحين. كان الاعتماد الأكبر وقتها على الوسائل الدبلوماسية التقليدية. أما الرئيس الصربي الراحل ـ سلوبودان ميلوشيفيتش، وعلى الرغم من النظرة السلبية تجاهه، إلا أنه كان طرفا كامل الحقوق في المباحثات. وكانت هناك مساومات طويلة مع بلغراد اكتفى الناتو خلالها باستخدام طيرانه ضد الوحدات الصربية بشكل استعراضي.
وعندما وقع الصرب في أزمة مشابهه مع إقليم كوسوفو، كان الحديث معهم هذه المرة بلغة التهديد والوعيد. ولم يجد الناتو حرجا في إعلان انحيازه الكامل إلى جانب كوسوفو، وفي القتال، فعليا، إلى جانب جيش تحرير كوسوفو. وخلال المفاوضات كان الحديث يدور عن الاستسلام الكامل. وبالمناسبة، كان السبب المباشر لشن الحرب، آنذاك، هو المذبحة التي وقعت في قرية “راتشاك” حيث اتهم الجيش الشعبي اليوغوسلافي بارتكابها. علما بأن علامات استفهام كبيرة، ظهرت لاحقا حول نزاهة التحقيقات التي أُجريت.
وفي الأزمة السورية التي نشهدها اليوم، من المتعذر التحقيق في عمليات القتل الجماعي للمدنيين في المدن السورية، في ظل الحرب الإعلامية الجارية. وهذا يعيد إلى الأذهان أحداث عام 1999. فبخلاف اتفاق دايتون، الذي ساهم في إنهاء الحرب في البوسنة، من الممكن، افتراضيا، لاتفاق كهذا أن يكون أكثر توازنا في الحالة السورية. ذلك أن روسيا، في منتصف التسعينيات، لم تكن تلعب أدوارا تذكر في حل النزاعات، لأنها كانت غارقة في أزمات مستفحلة، لم تستطع تجاوزها إلا بشق الأنفس. وعلى الرغم من الإمكانيات المحدودة، التي كانت تتمتع بها روسيا آنذاك، إلا أنها سعت بمفردها إلى تخفيف حدة المزاج الغربي المعادي لصربيا، ولم تسمح للولايات المتحدة بالاستفراد بذلك البلد. لكن روسيا اليوم تحولت إلى لاعب أساسي في الساحة السورية، يمتلك ما يكفي من النفوذ والتأثير، لمقاومة ما يمارس عليها من ضغوط.
وعلاوة على ذلك، كان الدبلوماسيون الغربيون، هم من خطط لعملية السلام في البوسنة، (الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي كارل بيلدت، وممثل الولايات المتحدة ريتشارد هولبروك، الملقب بالبلدوزر). أما الآن فإن المبادرة قد تأتي بامتياز من الدبلوماسيين الروس. ولعل ما يبعث على التفاؤل هو أنه بعد عدة أشهر من اندلاع الأزمة السورية، أثبتت الدبلوماسية الروسية أنها تملك قدرات مهنية كافية، تستطيع أن توظفها ببراعة. لكن التحركات هنا يجب أن تكون سريعة، قبل أن تتوالى الأحداث وتتفاقم لتؤدي في المحصلة إلى تدمير سورية بشكل نهائي.
روسيا اليوم