أسفرت قمة الاتحاد الأوروبي عن تباينات واضحة في تفاصيل الدول الأعضاء بشأن الأزمة السورية والعلاقة مع روسيا.
التباينات الأوروبية لا ترقى إلى مستوى الخلافات أو التناقضات، لأنها في نهاية المطاف تسير في إطارين مهمين. الأول، هو الاتحاد الأوروبي كتكتل يضم 28 دولة أوروبية. والثاني، هو حلف شمال الأطلسي الذي يضم نفس هذه الدول تقريبا. وبالتالي، من الصعب أن نصف قمة الاتحاد الأوروبي بالفشل في ما يتعلق بفرض عقوبات ضد موسكو ودمشق. ومن الصعب أيضا أن نتحدث عن تراجع الاتحاد الأوروبي عن سياساته ضد روسيا، وبالذات في ما يخص العقوبات، ويتعلق بالرضوخ لإملاءات وضغوط أمريكية بنسب كبيرة. ومع ذلك، لا يمكن أن نستثني أو نستبعد يقظة الدول الأوروبية في أمر مهم يتعلق بمستقبل هذه الدول بشكل عام. هذا الأمر يتمثل في اتفاق ضمني غير معلن وغير محدد بين الأوروبيين على عدم السماح للولايات المتحدة بالسيطرة الكاملة على أوروبا، أو التحكم في مقدراتها، حتى وإن كانت واشنطن تملي قراراتها ومصالحها على أوروبا بنسب كبيرة، أو أن هناك سعيا أمريكيا في اتجاه إخضاع أوروبا لأهواء ومغامرات الأمريكيين.
الأوروبيون، وعلى الرغم من خضوعهم بنسبة كبيرة لواشنطن، إلا أنهم يرفضون الركوع التام، لأنهم تعلموا من التاريخ القديم والحديث أن الولايات المتحدة تقبع هناك وراء المحيط، بينما أوروبا هي التي تقع في بؤرة الصراعات والصدامات، وهي التي تتعرض شعوبها إلى المخاطر والتهديدات. وربما كانت الحرب العالمية الثانية خير دليل على حرص أوروبا، أو ضرورة حرصها، على إجراء حسابات دقيقة قبل أن “تنبطح” تماما أمام أهواء ومغامرات الولايات المتحدة البعيدة عن بؤر الصراعات والصدامات والحروب، ولكنها تديرها بشكل أو بآخر، وتدَّعي لنفسها حقوقا في دول ومناطق أخرى قد تشمل كوكب الأرض بالكامل.
التباينات الأوروبية في قمة الاتحاد الأوروبي نجمت في الأساس عن العديد من المخاوف والحسابات السابقة. فإيطاليا على سبيل المثل، ترى ضرورة تشكبل جبهة موحدة لمواجهة الإرهاب. وقد صرحت وزيرة الدفاع الإيطالية روبرتا بينوتي، بشأن التناقضات بين موسكو وواشنطن، بأنه “في الآونة الأخيرة، كان هناك توتر بشأن القضايا المتصلة بتكنولوجيا المعلومات، وبسبب وجهات نظر مختلفة بشأن الحرب في سوريا، ومع ذلك فهناك حاجة إلى تقارب جديد لتعزيز جبهة مشتركة ضد العدو، وهو الإرهاب.. بل ولإستئناف الحوار بين روسيا وحلف الناتو.. وضرورة طمأنة دول أوروبا الشرقية بأن روسيا لا تمثل خطرا عليها”.
أما وزير الخارجية البلجيكي ديدييه ريندرز، فقد أعلن بأنه لا ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يترك روسيا والولايات المتحدة تنفردان بالمفاوضات بشأن تسوية الأزمة السورية، بل يجب أن تكون بروكسل لاعبا نشطا في هذه العملية”. ولفت الانتباه إلى أنه “عندما تتحدث أوروبا بصوت واحد، يكون لديها دور يجب أن تلعبه. وفي حال غياب هذا، نترك أرض فارغة للمفاوضات الحصرية بين واشنطن وموسكو”. هذا التصريح المهم لوزير الخارجية البلجيكي حول دور “بروكسل” كمركز للاتحاد الأوروبي المعني بالدور الأوروبي وبالمخاطر والتهديدات التي قد تواجه أوروبا في المستقبل، يعكس مستوى آخر من جوهر الوجود الأوروبي، غير ذلك المستوى الظاهر المتعلق بالتصريحات الساخنة لهذا الزعيم أو ذاك لدواعٍ انتخابية أو إعلامية أو سياسية قصيرة الأمد. وروسيا في هذا المشهد لا يمكن مقارنتها بالولايات المتحدة، لأنها جزء من الأمن الأوروبي، شاءت واشنطن هذا أم أبت.
وعلى الرغم من أن روسيا جزء من الأمن الأوروبي، بل وجزء رئيسي، إلا أنها تمثل أيضا إحدى نقاط الارتكاز الرئيسية للأمن الدولي. بمعنى أن موسكو لديها خططها وسيناريوهاتها لخريطة الأمن والمصالح الأوروبية من جهة، ولديها أيضا سيناريوهاتها وخططها بشأن المشهد الأمني والجيوسياسي والاقتصادي من جهة أخرى. وبالتالي، لا غرابة هنا، على الرغم من التصعيد والحشد وتعقد الأمور، أن يبحث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره الأمريكي، جون كيري سبل تطبيع الوضع في أحياء حلب الشرقية، وذلك استمرارا للحوار الثنائي حول الأزمة السورية، وتطويراً لاتفاقات لوزان التي تم التوصل إليها في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي.
مباحثات لافروف وكيري، الهاتفية، جاءت بعد قمة رباعية “نورماندي” في برلين، التي أبدت روسيا خلالها مرونة ودبلوماسية منقطعة النظير، في ظل العصبية الغربية والسخونة والتصعيد حول سوريا وأوكرانيا. وانطلقت موسكو في مواقفها السياسية المرنة هذه من أنه في سبيل الهدنة في سوريا أو من أجل تطبيع الأمور لتسوية الأزمة الأوكرانية الداخلية، فمن الممكن تمديد الهدنة في حلب ليس فقط لثلاث ساعات، وإنما ليوم كامل من أجل تقديم كل المسوغات التي تعكس إرادة طيبة لإرساء تسويات سياسية وأمنية مشتركة. بل ووافقت موسكو على نشر بعثة عسكرية من منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في شرق أوكرانيا إذا كانت كييف على استعداد حقيقي لتنفيذ اتفاقات مينسك، والمضي قدما في تطبيع أزمتها الداخلية وتفادي الحرب الأهلية التي تضر بأوروبا كلها، وعلى رأسها روسيا.
هناك تلميحات بأن موسكو قد تمدد الهدنة في حلب من أجل استيفاء كل الحيثيات اللازمة لإنجاح أي اتفاقات، ومن أجل تفادي أي مواجهات مباشرة بينها وبين أي قوى أخرى. ولكن من الصعب أن تواصل روسيا مرونتها السياسية أمام تصلب الغرب، وبيانات التصعيد والتهديد. وبالتالي، فهي في انتظار خطوات محددة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها لتجنيب سوريا، والمنطقة ككل، إجراءات استثنائية لا حاجة لأحد إليها، إلا إذا كانت هناك أطراف ترى أن مصالحها في الحروب وإشعال الدول والمناطق الجغرافية التي تمتلئ بالسكان.
هناك إشارات روسية مهمة على خلفية هذا المشهد. فوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أعرب عن قلق موسكو من أنه على الرغم من بوادر حسن النية الروسية في حلب إلا أن “جبهة النصرة” ترفض الخروج من المدينة. وذهب إلى أن موسكو غير مندهشة من أن واشنطن لا تعتبر “جبهة النصرة” هدفا في سوريا، ولا توجد اصلا محاولات للقضاء على هذا التنظيم الإرهابي. أما مندوب روسيا الدائم لدى مقر الأمم المتحدة في جنيف أليكسي بورودافكين فقد قال صراحة إنه “يبدو أن التحالف الأمريكي يخطط للضغط على إرهابيي داعش لإخراجهم من الموصل إلى سوريا”.
أما الأخطر، فيدور حول معلومات مهمة بشأن عدم التزام القوات التركية في سوريا بمحاربة الإرهاب، وهناك شكوك بأنها بدأت توسِّع من نشاطاتها في أمور أخرى. وفي هذا الصدد تحديدا أعرب لافروف عن أمل روسيا بأن تفعل الولايات المتحدة كل ما بوسعها “لتتقيد” تركيا بهدف محاربة الإرهاب. وقد جاء تصريح لافروف هذا أثناء لقاء وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر مع نظيره التركي فكري إيشيك في أنقرة يوم 21 أكتوبر/ تشرين الأول. وقد جرت مباحثات كارتر وإيشيك خلف الأبواب المغلقة. والمهم هنا أن البنتاغون أعلن عشية زيارة وزير الدفاع الأمريكي لأنقرة أن “تركيا شريك نشط للولايات المتحدة، وتمثل جزءا من التحالف الدولي ضد تنظيم داعش الإرهابي”.
المشهد في غاية الضبابية، والبوصلات تتغير بحدة ولأسباب تظل مجهولة، أو يتم التعتيم عليها. بل وتتغير التحالفات والتوافقات بشكل أسرع بكثير من الأحداث نفسها، ما يعكس حالة من الفوضى وعدم التنسيق، أو بالأحرى، تعمد إثارة الفوضى من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب.
سيريان تلغراف | أشرف الصباغ