على الرغم من التطورات الكبرى في الأزمة السورية في السنتين الماضيتين إلا أن واشنطن لا تزال تعمل بتكتيكات عسكرية وسياسية متنوعة من أجل إنهاء الأزمة بتغيير النظام هناك.
وإذا تمعنا في تصريحات المسؤولين الأمريكيين منذ بدء الأزمة سنجد أن قاسمها المشترك، الموقف القائل بأن إسقاط النظام هو مفتاح القضاء على “داعش”، أي أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية لإسقاط النظام في دمشق لحسم الأزمة بانهيار الدولة كما في ليبيا بعد تدخل الناتو والعراق بعد الغزو.
هذا الموقف عبر عنه مؤخرا روبرت مالي منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج والذي يتولى أيضا منصب مساعد الرئيس الأمريكي، حيث حذر في مقابلة أجرتها معه مجلة “فورين بوليسي” من أن واشنطن، إذا فشل تعاونها مع موسكو، ستواصل تزويد المعارضة السورية بالأسلحة، على الرغم من أنها تدرك جيدا أن ذلك سيؤدي إلى إطالة أمد النزاع المسلح إلى أجل غير مسمى.
وبطبيعة الحال تدعي واشنطن أن هدفها الأساسي في سوريا القضاء على الدكتاتورية وإحلال الديمقراطية كما في جميع غزواتها وحروبها في المنطقة والعالم. وهي بالتأكيد تعول هنا على أن يستقبل العالم مواقفها هذه متناسيا أنها ظلت لعقود ربيبة أعتى الدكتاتوريات في دول أمريكا الوسطى، والحليف المخلص لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ولماركوس في الفلبين ولشاه إيران.
وهذا ليس كل شيء إذ أن الولايات المتحدة لا تزال حتى الآن النصير الأول لعدد من الأنظمة القمعية العتيدة، وهي لا تزال تنظر إلى الطغاة بحسب مصالحها، فإن والوها أغمضت عينيها عنهم، وإن قلبوا لها ظهر المجن أو بدر منهم ما يسوؤها رفعت عصاها الغليظة ضدهم.
لم يتغير الكثير في سياسات الولايات المتحدة منذ عقود طويلة، إلا تفننها في التكتيكات السياسية والعسكرية وفي وسائل تحقيق مصالحها، وهي فيما أرسلت جيوشها وحلفائها الجرارة إلى أفغانستان ثم العراق لدك أسوار كابل وبغداد، غيرت بحسب الظروف والمستجدات من تكتيكاتها لاحقا في ليبيا، واعتمدت على ما يمكن وصفه بسياسة الثورات الجاهزة بمفاتيحها.
هذا النهج، اتبع في ليبيا، فمنذ اللحظات الأولى لعدوى الربيع العربي لم يُطل الغرب في تقصي هوية المنتفضين ضد القذافي في شرق البلاد، فاحتضنهم وأرسل الناتو طائراته وصواريخه لتدمير الجيش الليبي.
أنجزت المهمة في عضون ثمانية شهور بانهيار مؤسسات الدولة في ليبيا وبدخول البلاد في فوضى عارمة من الانقسام والاقتتال والتنافس المحموم واستشراء الجريمة وانهيار الخدمات، وهو وضع لا يزال يسير إلى الأسوأ من دون توقف.
ومع ذلك تصر وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون على أن تدخل بلادها في ليبيا حقق انجازا هاما تمثل في أنه جنبها السيناريو السوري!
وهكذا لم يكتف الأمريكيون بتدمير مؤسسات الدولة العراقية وتحويل البلاد إلى مستنقع للعنف والفساد والتطرف والفوضى، ولم يستفيدوا من أخطائهم القاتلة هناك. بل أعادوا السيناريو ذاته في ليبيا باختلاف وحيد هو أنهم لم يزجوا بأبنائهم وأبناء حلفائهم في حرب برية، مكتفين بتقديم دعم جوي وصاروخي لقوات محلية متمردة، وبتسليم مفاتيح البلاد لممثليها، ثم التفرج على تفتت الدولة وتفسخها وتقاتل أبنائها من بعيد، وإرسال مساعدات إنسانية عبر المؤسسات الدولية للجياع والمشردين بين والحين والآخر.
بالمثل، يريد المسؤولون الأمريكيون أن ينتهي النزاع في سوريا بالإجهاز على النظام وتسليم مفاتيح السلطة إلى متمردين معتدلين في بحر من المتمردين المتطرفين، ومن بعد سيجلس هؤلاء لمشاهدة توالي النكبات والمآسي واحتراق ونهب وتدمير ما تبقى، ولن يحاسب واشنطن أحد في المحصلة كما هي العادة.
ولم يؤثر النموذج الليبي في حدة هوس المسؤولين الأمريكيين بتغيير الأنظمة التي لا تروق لهم، وها هو وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يهدد بين الفينة والأخرى بالخطة ب في سوريا، ولعل ترجمتها لا تعدو عن كونها إرسال المزيد من الأسلحة إلى المعارضة السورية التي هي عبارة عن المئات من الفصائل والتشكيلات العسكرية المسلحة، ومعظمها بتوجه إسلامي وبعضها متطرف، وضمن صفوفها عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب من كل حدب وصوب.
الولايات المتحدة لم تستطع استكمال “المشروع” في سوريا وتسليم مفاتيح البلد إلى “المعارضة المعتدلة” لأنها لم تتمكن من الاستفراد به، وهذا ما يفسر ربما غيظها وتهديدها بحرب مفتوحة هناك ثأرا لكبريائها.
سيريان تلغراف | محمد الطاهر