إذا صحت الروايات المتداولة، فإن أحمد حسين الشرع، الطالب في كلية الإعلام بجامعة دمشق
، الذي يتذكر بعض زملاء الدراسة أنه ربما كان من ضمن “ثلة” من الطلاب الذين كانوا يفضلون الجلوس في المقاعد الخلفية، ينزوون تلافياً للاختلاط بزملاء الكلية (الفاسقين والعياذ بالله، كما كانوا يصفونهم)، هو نفسه من تقدم الصفوف بعد أن غادر مدرجات الكلية فاشلاً، ليقود فيما بعد أحد أخطر التنظيمات الإرهابية في الحرب السورية – تنظيم “جبهة النصرة في بلاد الشام”.
الشرع سابقاً، “الجولاني” لاحقاً، و”الفاتح” اليوم ظهر للمرة الأولى أمس، كاشفاً عن وجهه، ومرتدياً الطربوش والعِمَّة الشامية وبزة عسكرية، ليعلن عن فك ارتباط الجبهة في سوريا بتنظيم “القاعدة”.
قال الجولاني في خطاب تلفزيوني مسجل: “لم نعد “قاعدة”! قُضي الأمر بالشورى”. وهكذا أسقط تسمية “جبهة النصرة”، معلناً فك الارتباط بـ”القاعدة”، بل أعلن عن تشكيل فصيل جديد سماه “جبهة فتح الشام”، ولا يرتبط بأي جهة خارجية، بحسب تعبيره. فأسقط معه الراية السوداء، مستبدلاً إياها براية الإسلام البيضاء، ومتوجهاً بالشكر إلى قادة تنظيم “القاعدة” على ما أسماه “تفهمهم لضرورات فك الارتباط”.
زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، كان قد مهَّد الطريق أمام الجولاني، مؤكداً أن “النصرة” يستطيع التضحية بروابطه التنظيمية مع “القاعدة”، إذا كان ذلك لازماً للحفاظ على وحدته ومواصلة المعركة في سوريا.
وتوجه الظواهري إلى “النصرة” في تسجيل صوتي بالقول إن “أخوّة الإسلام التي بيننا هي أقوى من كل الروابط التنظيمية الزائلة والمتحولة، وإن وحدتكم واتحادكم وتآلفكم أهم وأعز وأغلى عندنا من أي رابطة تنظيمية”.
قرار فك الارتباط ليس جديداً؛ حيث كان مطروحاً منذ أن أُجبر “جبهة النصرة”، بضغط من “الخليفة البغدادي”، على كشف تبعيته لتنظيم “القاعدة” عام 2013؛ ما رتب تصنيفهما كتنظيمين إرهابيين بموجب قرار أممي في يونيو/حزيران من العام نفسه.
التنظيم، الذي كان الأكثر قوةً وثباتاً في مواجهة الجيش السوري وحلفائه خلال السنتين الماضيتين، حاول لاحقاً الذوبان في ائتلاف فصائل سمي”جيش الفتح”، وتلقى أكبر الدعم من دول الإقليم وعلى رأسها قطر وتركيا وغيرهما. ولذلك كانت خطة “النصرة” والدول الداعمة تقضي بإبعاد صبغة “القاعدة” المرتبطة بالإرهاب العالمي عن “المعارضة المسلحة”، لا سيما أن “النصرة” يمثّل وحده رأس الحربة الأقوى في الميدان السوري. لم تنجح الخطة، وبقيت “الجبهة” الجزء “الإرهابي” ضمن “جيش الفتح” المصنَّف معتدلاً دولياً!
إذاً، ما الذي دفع الجولاني والظواهري إلى القيام بهذه الخطوة اليوم؟ وكيف ستكون مآلاتها داخلياً على التنظيم نفسه، وعلى الحرب السورية؟ وخارجياً لدى دول الإقليم والقوتين العظميين، روسيا والولايات المتحدة، اللتين تنسجان هذه الأيام آخر خيوط اتفاقهما للبدء باستهداف “النصرة” و”داعش”؟
لا شك في أن التفاهم الروسي–الأمريكي دفع الجولاني والظواهري إلى اتخاذ خطوة الانسلاخ “الصوري” لـ”جبهة النصرة” عن التنظيم الأم “القاعدة”.
ولم يُخفِ الجولاني في كلمته التي ظهر فيها أمس، أن الخشية من هذا التفاهم هي أحد الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ خطوته الأخيرة، متذرعاً بحماية “أهل الشام من القصف”.
لكن انتصار حلب كان له الوقع الأقسى على رأس “النصرة”. فعملية حي بني زيد أدت إلى محاصرته في حلب، وقطع طرق الإمداد القادمة من “عاصمة الإمارة” في إدلب المفتوحة على الحدود التركية.
وقبل هذا وذاك، لا بد من الإشارة إلى أن خطوة ” النصرة” لم تكن ولن تكون سهلة بسبب خلافات داخل التنظيم نفسه، في ظل الحديث عن أن قيادات وعناصر في التنظيم بصدد تركه أو الانشقاق عنه بسبب ما اعتبروه مساومة “الطاغوت” الأمريكي؛ لا بل إن هناك مخاوف داخل التنظيم من أن يتحول إلى تنظيمين: الأول يؤيد فك الارتباط مع أصله القاعدي، وآخر يتمسّك بامتداده وارتباطه بـ”قاعدة الجهاد”. وهنا قد تكمن الفرصة التي ينتظرها الجولاني لكي يقدّم منتجه الجديد لمن يشتري في المجتمع الدولي، للقبول به فصيلاً معتدلاً يواجه المتطرفين، فهل ثمة من يتجرأ على القبول؟
ردود الأفعال الأولى لا تشي بالكثير. فأنقرة أحد أكبر داعمي “جبهة النصرة” من باب “جيش الفتح”، وفي موقف لافت صدر أمس عن وزير خارجيتها أنها نفضت يديها من التنظيم، الذي طالما غذته بالسلاح والمال والمقاتلين؛ حيث أعلن مولود تشاوش أوغلو أن “بلاده وموسكو ستتخذان قراراً مشتركاً بمحاربة تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة” الإرهابيين في اجتماع أردوغان وبوتين في 9 أغسطس/آب”. وهذا الإعلان يشكل إحدى ثمار التقارب التركي-الروسي، الذي اتخذ منحىً متسارعاً بعد الانقلاب الفاشل.
“والانقلاب التركي” على “النصرة” يعني تلقائياً محدودية التأثير القطري والسعودي، على الأقل في معارك الشمال الاستراتيجية، لينحصر في الجنوب عبر البوابة الأردنية التي لم تعد مفتوحة أيضاً كما في السابق لاعتبارات تخص أمن الأردن الداخلي، الذي اختبر هزات ارتدادية عنيفة ناجمة عن الزلزال السوري، ستجعله يفكر مرتين قبل الانخراط في معارك جديدة على حدوده. واشنطن من جهتها سارعت إلى الرد على “الانفصال الصوري” بإغلاق الباب أمامه، فقالت على لسان قائد المنطقة الوسطى الجنرال لويد أوستن إن “جبهة النصرة سيظل جزءاً من تنظيم “القاعدة” حتى لو غير اسمه”؛ مشيراً إلى “تزايد المخاوف من قدرة “النصرة” على استهداف الغرب”.
لكن وزارة الخارجية الأمريكية كانت أقل حسماً، رغم قولها إن “النصرة” ما زال هدفاً للطائرات الأميركية والروسية” في إشارة إلى تفاهمها الأخير مع موسكو. فالناطق باسمها جون كيربي رأى أن الإعلان الذي صدر عن الجولاني “يمكن أن يكون ببساطة مجرد تغيير للمسميات”، وأن الولايات المتحدة “ستحكم عليه من تصرفاته وأهدافه وعقيدته”. وهذه العبارة الأخيرة تعني ترك الباب موارباً ولو بهامشٍ ضيق للجولاني بتقديم أوراق اعتماده؛ لأن واشنطن ورغم تفاهماتها الأخيرة مع موسكو، لا تزال تراهن وحلفاؤها على وجود فصيل “وازن” يستطيع قلب المعادلة ووقف اندفاعة الجيش السوري وحلفائه بعد التقدم الكبير في حلب، وبالتالي كسب المزيد من الأوراق على طاولة جنيف.
فهل يفعلها “الفاتح” ويقدم فروض الطاعة إلى “الطاغوت”؟! وكيف سيكون الرد الروسي على هذا الانقلاب الأمريكي؟
سيريان تلغراف | علي حسون