اعتذر أردوغان .. لا لم يعتذر .. أسف و التمس العذر! ستعوّض تركيا عن مقتل الطيار الروسي .. لا .. ستقدم مساعدة لتخفيف الآلام !
أياً يكن الأمر فإنه من الواضح أن فصلاً جديداً في العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا قد يبدأ، بعد توجيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رسالة إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين، كتب فيها كما أعلن الناطق باسم الرئاسة التركية ابراهيم كالين : “من فضلكم أعذرونا على إسقاط سلاح الجو التركي مقاتلة روسية” من طراز سوخوي قرب حدود سورية ، داعياً إلى إصلاح العلاقات بين أنقرة وموسكو.
في المقابل اعتبر الكرملين الرسالة “اعتذاراً”، مطالباً بـ “خطوات إضافية” تتخذها تركيا، مع التشديد على أن “المشكلة لن تحل خلال أيام”.
رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم قال إن “المراسلات المتبادلة أذابت الجليد في العلاقات بين روسيا وتركيا، لذا يمكن القول إن تطبيع العلاقات بدأ، وتحسينها مع كل بلدان بحر البلطيق والبحر المتوسط هدف مهم”.
الناطق باسم الرئاسة التركية كالين عاد وقال إن رسالة أردوغان “لم تتضمن اعتذاراً” لبوتين، بل كانت موجهة إلى عائلة الطيار الروسي القتيل. وشدد على أن خطوات بلاده “لا تعني تغيراً في سياستها إزاء شبه جزيرة القرم وكذلك إزاء سوريا”.
وعكس “التخبط” الأكبر في التصريحات تراجع بن علي يلديرم عن قوله للتلفزيون التركي ليل الاثنين: “سندفع تعويضات لموسكو، وهذا ليس شرطاً روسياً بل أمر نحن والروس متفقون عليه”. ثم قال بعد 12 ساعة لمحطة “سي إن إن تورك”: ليس وارداً دفع تعويضات لروسيا. نقلنا لهم أسفنا فقط”.
نواب في المعارضة انتقدوا أردوغان الذي سعى إلى “مصالحة مزدوجة” مع روسيا واسرائيل في يوم واحد وهو الذي بنى سياساته الداخلية في الأشهر الأخيرة على انتقادهما بشدة. أضاف هؤلاء أنهم “لن يندهشوا إذا اعتذر أردوغان من زعماء آخرين شاطرهم الخصومة مثل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والرئيس السوري بشار الأسد”.
ماذا يريد أردوغان ؟
من الواضح أن الرد الروسي على إسقاط “سوخوي 24” كان موجعاً، وثمانية أشهر أثبتت لأردوغان أنه لا يمكنه تحمّل تبعات توتر العلاقات مع روسيا اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً.
لكن، مع ذلك ، لا يتوقعنّ أحد أن يكون التطبيع بين موسكو وأنقرة بالشكل والسرعة التي تأملها أنقرة ، فروسيا ستشترط تعديل السياسة التركية في شأن سوريا والقرم قبل عودة العلاقات إلى سابق عهدها بالكامل، وكل تصريحات قادتها تؤكد ضرورة تغيير السلوك التركي في الأزمة السورية والحرب على الإرهاب.
فماذا سيفعل أردوغان وهو الذي أدخل بلاده في مستنقع من المشكلات لا يبدو أن تجفيفه ممكناً على المدى المنظور ، فمن جهة لديه “داعش” الذي انقلب عليه بعد طول مهادنة، وتفجيرات مطار أتاتورك دليل على ذلك، ومن جهة أخرى لديه معضلة الأكراد؛ فالصداع الكردي، الممتد من الحرب الداخلية مع حزب العمال إلى الكردستاني إلى الفيدرالية المعلنة في الشمال السوري العاملة على وصل عين العرب بعفرين لتغطي كل الحدود التركية، هي المنغّص الأكبر لأردوغان.
قد يكون هذا الملف الشائك هو ما دفع أردوغان للاستدارة نحو موسكو بهدف العمل المشترك ضد “مشروع” الأكراد في سوريا، لكنه يعلم بالتأكيد أن لذلك ثمن يتحتّم على أنقرة أن تدفعه عبر تقديم تنازلات كإقفال الحدود وإيقاف دعم المسلحين مقابل ضمانات روسية (ومن خلفها سوريا) للحيلولة دون قيام كيان كردي، فهل يفعلها أردوغان؟
هل يغلق حدود بلاده أمام تدفق الإرهابيين والأسلحة إلى حلب التي تنتظر بحسب كل المؤشرات معركةً كبرى كان أعلن عن قرب انطلاقها وأهميتها الأمين العام لحزب الله قبل أيام ؟
من يقرأ رسالة أردوغان إلى بوتين لا بد سيلفته كم المخاتلة والضبابية وتعدد احتمالات التأويل والتفسير .. من هنا يمكن الحكم على أردوغان الذي لطالما اعتمد المخاتلة في سياساته : الرجل يعتقد أنه قد يستطيع المناورة مع روسيا بأن يوقف مؤقتاً تدفق الإرهابيين والأسلحة ، لما لا وهو الذي فتح حدود بلاده طيلة فترة الهدنة -المستمرة شكلياً منذ أربعة أشهر- في أكثف عملية تدفق للمقاتلين والأسلحة إلى المجموعات المسلحة وعلى رأسها جيش الفتح والنصرة.
لكن هذا الرهان لا يبدو ممكناً، فروسيا التي وثقت وصورت كل تلك الجحافل، فضحته ووضعت كل إثباتاتها على طاولة مجموعة العمل الدولية الخاصة بمراقبة الأعمال القتالية في سوريا، وفي اليوم نفسه الذي أرسل فيه أردوغان رسالة “الأسف”.
ممثل روسيا في الاجتماع ، قدم معلومات واضحة للمجموعة الدولية حول حصول التنظيم الإرهابي على دبابات حديثة وصواريخ مضادة للدبابات، ومئة صاروخ مضاد للطائرات تتحفظ الجبهة على استخدامها إلى حين تلقي الإشارة ممن أسماها “دولة كبيرة على الحدود الشمالية لسوريا” في إشارة واضحة إلى تركيا.
المعلومات المتواترة من حلب تفيد باستعداد مكثف لمختلف الأطراف، لمعركة من المرجح أن تعيد نتائجها ترتيب المشهد السوري ميدانياً وسياسياً بشكل يعيد ترتيب الأوراق بكاملها .. تقدم الجيش السوري وحلفائه في مزارع الملاح وعودة القصف الروسي المركز وحديث السيد نصرالله عن معركة طاحنة ، كلها مؤشرات على اقتراب معركة حلب الكبرى.
سلوك أردوغان في هذه المعركة سيحدّد تماماً مقدار جديته في المصالحة مع روسيا ، ومقدار تجاوب روسيا مع خطواته الانفتاحية.
لكن، أيضاً ثمّة من يعتقد أن البلدان قد يلجآن إلى تكرار تجربة “الفصل بين الملفات” التي أثمرت تعاوناً بينهما خلال السنوات العشر التي سبقت الأزمة، في إشارة إلى فصل الخلافات السياسية عن برامج التعاون والمصالح الاقتصادية، ليترك الميدان السوري وتحديداً حلب رهن المعركة الكبرى التي استعدّ لها الجميع ، والتي وعد الأسد في خطابه الأخير أردوغان بأن آماله ستُدفن فيها .. فلننتظر ونرى.
سيريان تلغراف | علي حسون