يرى الكثيرون نيران الحرب المشتعلة في المنطقة العربية على أنها مؤامرة “امبريالية صهيونية” أو تركية فارسية، إلا أنها لا تعدو للرائي عن قرب عن كونها استعادة متجددة لحرب البسوس.
تلك الحرب يقول رواة أيام العرب إنها استعرت عام 494 بالتقويم الميلادي بين قبيلة تغلب بن وائل، وقبيلة بكر بن وائل، بسبب ناقة لسيدة من تغلب تدعى البسوس. قتل بكري ناقة البسوس فتطايرت بعدها الرؤوس والهامات، واشتعلت حرب ثأرية استمرت أربعين عاما، وبروايات أخرى عشرين عاما وبضع سنين.
وبطبيعة الحال سيتحجج الكثيرون بأن الأوضاع مختلفة تماما، وأننا محاطون الآن بأعداء قريبين وآخرين بعيدين وجميعهم يحيكون الدسائس ويتآمرون علينا ليل نهار، بينما في تلك الأيام الخوالي كان العرب يعيشون في خلاء منعزل وما من دخيل بينهم.
لا يمكن بطبيعة الحال نفي أن يكون خلف الأكمة عدو متربص، إلا أن الأهم، وهو ما يغيب دائما عن أنظارنا، أن تماسكنا وتراصنا ويقظتنا أو العكس هو ما يحدد مصيرنا بالدرجة الأولى، وهنا مربط الفرس.
كان في أطراف الديار بلاد تسمى الصومال، اندلعت فيها حرب البسوس منذ عام 1991 ولم تنطفئ حتى الآن. قد يكون هناك من يصب الزيت على النار، لكن لولا القش والحطب والدروب السالكة، ما اشتعلت تلك المحرقة كل هذه السنين، لكنها على ما يبدو لعنة البسوس تلاحقنا من دون أن ندري.
ونفس الحال حاق بالعراق منذ عام 2003، حين أسهم الأمريكيون وحلفاؤهم في إطلاق شرارة حرب البسوس هناك. وفي هذه المرة أيضا ظهرت بكر وتغلب وإن في لبوس جديد متعدد الألوان، وها هي حرب البسوس تتجدد فصلا بعد آخر في بلاد الرافدين منذ 13 عاما ولا ينطفئ أوارها، فهل مرد ذلك يا تُرى أن الأعداء أحكموا مكائدهم أم أن عقلاء الديار فقدوا صوابهم؟
أما ليبيا، فحرب البسوس اندلعت هناك منذ خمس سنين ويزيد. اشتعلت ولم تنطفئ بل انتقلت من مكان إلى أخر، وفي كل مرة يصاب ضرع ناقة البسوس بسهم فتراق ثأرا له الدماء، دماء غزيرة من دون حساب، ولا يتعظ من الموت الرخيص أحد.
ولم تستثن لعنة البسوس اليمن، وبعد أن توحد شطراه وكبر الأمل في أن يعود سعيدا كما في ماضيه السحيق، أصاب سهم غادر ضرع ناقة البسوس من جديد، فانفجرت براكين القبائل والعشائر حربا لا تبقي ولا تذر.
وفي سوريا لم يكتمل الحلم هناك بعودة الجولان وباستعادة لواء إسكندرون من الجيران، فشرارات حرب البسوس تحولت إلى لهيب حارق، وإلى نار مستعرة تزيد ولا تنقص.
وبلا شك، وجد الجيران في كل حرب بسوس عربية فرصة سانحة كي يصولوا ويجولوا، ويطبخوا خبزهم فوق النيران التي تحرق الديار، وبما أن الترك لم يستطيعوا الدخول إلى بروكسل، وليس بإمكانهم بتاتا أن يعودوا إلى سيرتهم الأولى ويشدوا الرحال إلى فيينا ليحاصرها جندهم، فما كان منهم إلا أن مدوا أيديهم إلى حلب، وربما سيمدون أيديهم إلى دمشق وإلى ما هو أبعد، إذا لم تضع الحرب أوزارها.
وبالمثل لا يستطيع الفرس أن يرسلوا مراكبهم من جديد إلى بحر إيجة صوب اليونان، ولا يمكنهم أيضا أن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون النار تضطرم قرب حدودهم، وما كان لهم في نفس الوقت أن يدخلوا لو لم يجدوا الأبواب مشرعة.
نحن الملامون فيما لحقنا من مصائب، وفي تكالب القوم علينا. لو لم تسول نفسٌ أمارة بالسوء لامرئ بأن يغرس سهمه في ضرع ناقة البسوس، ولآخر بأن يثأر أضعافا مضاعفة ما كنا اليوم فيما نحن فيه من خطب قد لا يزول قبل عشرين عاما وبضع سنين، كما تقول أكثر الروايات تفاؤلا.
سيريان تلغراف | محمد الطاهر