كتب روستاسلاف ايشنكو مقالة تحت هذا العنوان ذكر فيها أن الولايات المتحدة نشرت في يوم 12 مايو/ أيار في قاعدة الدرع الصاروخية في رومانيا، أول 24 صاروخا من الصواريخ الاعتراضية.
وفي يوم 13 مايو/ أيار تم الاحتفال بوضع أساس قاعدة مماثلة في قرية ويدزيكوفو في شمال بولندا وستصبح جاهزة للعمل في 2018. وفيها سيجري نشر صواريخ اعتراضية متوسطة المدى من طراز “إس ام -3”.
وفي نفس اليوم جاء رد فعل روسيا على لسان الرئيس فلاديمير بوتين الذي أعلن أن الولايات المتحدة لن تتمكن من خداع روسيا بالتصريحات حول الطابع الدفاعي لهذه المنظومة وشدد على أن الحديث يجري عمليا عن نقل قسم من الترسانة النووية الأمريكية إلى أوروبا الشرقية لتصبح قريبة جدا من حدود روسيا. وأكد بوتين على أن روسيا سترد بشكل مناسب على هذا التهديد لأمنها القومي.
ومباشرة بعد تصريح الرئيس الروسي، بدأت الهستيريا في الولايات المتحدة والناتو بخصوص رد الفعل الروسي غير المتناسب على تصرف “غير مؤذ” من جانب الحلف. وهنا يظهر السؤال، هل فعلا هذه القواعد الأمريكية الجديدة “غير مؤذية”؟.
تدل التجربة على مدى سنوات طويلة على أن الرئيس بوتين لا يستعجل عادة في إطلاق التصريحات القاسية اللهجة. ومن الواضح أن تصريحه الأخير كان قاسيا وشديدا بشكل لا سابقة له بتاتا. فعند تحدثه عن ضرورة ” تحييد” التهديدات التي ظهرت حول أمن روسيا، ألمح بوتين بشكل لا لبس فيه إلى أن دول شرق أوروبا التي سمحت بنشر القواعد الأمريكية في أراضيها تحولت إلى أهداف محتملة للضربات الروسية. وقبيل ذلك أعلنت الخارجية الروسية أن تصرفات الولايات المتحدة المذكورة تعتبر بمثابة انتهاك لمعاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى الموقعة في 1987.
ما الذي أثار قلق قيادة روسيا ولماذا هذه الهيستيريا من جانب الناتو؟
تجدر الإشارة إلى أن مجمعات منظومة Aegis تعتبر أساس الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا وهي تحمل في طياتها خطرا مزدوجا بالنسبة لروسيا.
بعد التوقيع على معاهدة ستارت الأخيرة قلصت روسيا والولايات المتحدة ترسانة الرؤوس القتالية النووية إلى 6-7 آلاف لدى كل دولة( روسيا تملك رسميا 7300 رأس). ولكن لكي يصبح كل رأس قتالي فعالا يجب أن يتم نقله إلى الهدف. لدى روسيا في القوت الراهن 526 حامل منتشر للسلاح النووي
وخلال ذلك تشكل الطائرات الاستراتيجية والغواصات النووية، نصف وسائط حمل الرؤوس القتالية النووية المنتشرة. ولكن يجب الأخذ بالاعتبار أنه وفي حال حدث الهجوم الوقائي المفاجئ من قبل الخصم لن تتمكن جميع الطائرات من الإقلاع حتى وإن أقلعت لن تتمكن جميعها من الوصول إلى منطقة إطلاق الصواريخ النووية. وكذلك لن تتمكن كل الغواصات من الوصول إلى مناطق المناوبة القتالية. وأما تلك التي تتواجد في مناطق المناوبة القتالية فستتعرض حتما للهجوم المفاجئ من جانب الأسطول البحري الأمريكي قبل البدء الرسمي للحرب. اليوم روسيا تملك فقط 10 غواصات تحمل صواريخ بالستية، من النوع التي يصعب على البحرية الأمريكية تحييدها. وبهذا الشكل فقط منصات الإطلاق البرية للصواريخ البالستية العابرة للقارات، تضمن الإصابة المحققة لأراضي الولايات المتحدة وهذه الصواريخ بالذات تعتبر الهدف الحقيقي لمنظومة الدرع الصاروخية الأمريكية التي يجب على اقترابها الكبير من الحدود الروسية أن يسمح باعتراض الصواريخ الروسية العابرة للقارات الحاملة للرؤوس النووية ذلك عند وجود هذه الصواريخ في أشد مراحل ضعفها، في مرحلة الاندفاع بعد الإطلاق.
في الوقت الراهن تملك روسيا حوالي 300 صاروخ عابر للقارات يمكنها حمل الرؤوس النووية ومن الواضح أن نشر 24 صاروخا اعتراضيا في رومانيا لن يسمح بإنقاذ الولايات المتحدة من ضربة الانتقام النووية. ولكن واشنطن لا تنوي الاكتفاء بهذا العدد ومن المعروف أنه ومع تشغيل القواعد لن يكون من الصعب زيادة عدد منصات الإطلاق وزيادة عدد الصواريخ الاعتراضية فيها. بالإضافة إلى ذلك يمكن لمجمعات منظومة Aegis أن تطلق الصواريخ الاعتراضية وكذلك صواريخ توماهوك المجنحة الحاملة للرؤوس النووية وهو ما يتعارض مع معاهدة عام 1987.
في الثمانينيات من القرن الماضي نشرت واشنطن في غرب أوروبا صواريخ توماهوك وبيرشينغ لتهدد أهدافا في القسم الاوروبي من الاتحاد السوفيتي، وكانت تحتاج فقط لـ5-8 دقائق لتصيب أهدافها في الجمهوريات السوفيتية حتى جبال أورال. والآن إذا انتشرت صواريخ توماهوك في رومانيا وبولندا فستصبح أقرب إلى المدن الروسية من تلك الفترة بألف كلم أو أكثر وبالتالي سيتقلص زمن وصولها للهدف. هذا يعني أن الوقت سينعدم تقريبا لدى القيادة الروسية، بعد إطلاق مثل هذه الصواريخ، لكي تقرر هل تعرضت البلاد لهجوم نووي أو لا وهل يجب أن تعطي الإشارة بالرد قبل أن يتم تدمير الصواريخ الروسية وهي في قواعدها. وطبعا بعد تقليص عدد الرؤوس القتالية ووسائط حملها وفقا لمعاهدة ستارت الأخيرة، لم يعد هناك أمل بأنه وفي حال الهجوم الأمريكي المفاجئ، ستنجو الكمية الكافية من الصواريخ الروسية لتوجيه الضربة الانتقامية. وهذا بحد ذاته سيزيد من مستوى خطر المواجهة النووية بين روسيا والولايات المتحدة وخاصة وأن الوضع الدولي حاليا في غاية الخطورة لأن الولايات المتحدة لا ترغب الإقرار بانتهاء فترة هيمنتها على العالم وتراهن على استخدام القوة المسلحة للمحافظة على ذلك. ولولا نشر روسيا لوسائل دفاع جوي حديثة جدا في سوريا كانت هذه الاخيرة ستشهد حتما تنفيذ السيناريو الليبي على أراضيها.
تجدر الإشارة إلى أن الجيش الروسي كان قد أعلن عند بدء واشنطن بالترويج لنشر منظومة درعها الصاروخية في أوروبا الشرقية قبل عدة سنوات، أن افضل وسيلة لتلافي الخطر القادم منها هو توجيه ضربات وقائية ضدها بصواريخ ” اسكندر”( والآن بواسطة صواريخ كاليبر) في حال قررت القيادة السياسية الروسية أن الحرب واقعة لا محالة.
تدمير قواعد الدرع الصاروخية بواسطة أسلحة غير نووية عالية الدقة، لن يؤدي حتما لحرب نووية مع الولايات المتحدة ولكنه عمليا سيضمن مواجهة عسكرية مع الدول حيث تقع هذه القواعد.
ولكن القيادة الروسية قد تعتبر أن اقتراب القواعد، التي يمكن منها إطلاق صواريخ نووية، بشكل خطير من الحدود الروسية بمثابة التهديد الخطير لوجود الدولة الروسية. وفي هذه الحالة يمكن للقيادة ان تستخدم السلاح النووي وفقا للعقيدة الدفاعية الجديدة حتى لو لم يستخدم الخصم السلاح النووي ضد روسيا.
ولهذا السبب بالذات كان رد الفعل الهستيري على تصريح الرئيس بوتين. هم توقعوا أن الجانب الروسي سيتراجع بعد أن يجد نفسه امام الأمر الواقع ولكن موسكو قبلت التحدي ورفعت مستوى الرهان وهو ما سيفرض على واشنطن حتمية القرار: مواصلة المخاطرة مع احتمال نشوب حريق نووي واسع أو تحكيم العقل والتراجع أمام العالم كله.
سيريان تلغراف