Site icon سيريان تلغراف

من تدمر الشمال إلى تدمر الشرق ألف تحية

احتلال “داعش” تدمر كان رمزا لأنها مدينة امرأة تاريخية جرؤت على عصيان الإمبراطورية الرومانية، واعتلاء سدة الحكم بعد وفاة زوجها.

زنوبيا كانت ترتدي عمامة كسرى أثناء استقبالها الوفود في ديوانها الملكي، وخوذة أبولو أثناء الحرب، وتمتطي الجياد وتنازل الفرسان.

شيء ما يذكر بالقديسة الفرنسية جان دارك في القرن الخامس عشر الميلادي، والتي قادت الجيش الفرنسي في غير موقعة، وكانت ترتدي ملابس الرجال.

بيد أن “داعش” لم يكن هناك، حين تولت زنوبيا الملك، ولم تكن قد بلغت من العمر سوى 14 عاما؛ وكذلك حين سيطرت “الملكة المحاربة” على جزء كبير من الشرق.

لكن “داعش”، الذي يعبد الماضي، ولا يفقه فيه شيئا، أراد الانتقام من الحجر، وكل حجر قائم هو له أنصاب وأزلام وأصنام وأوثان.

لم يسأل الداعشيون أنفسهم لماذا ترك الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون هذه الآثار من الأمم الأولى في مصر وبلاد الرافدين وبلاد الشام؟ ولماذا دعا القرآن الكريم إلى الاعتبار بها؟

ربما لأن هذا زمن ليس للعبرة والاعتبار، بل للحقد والانتصارات الموهومة والهدم لا البناء.

ولذا، تقاطبت على بلاد الشام عصابات الإرهاب من عشرات الدول، واحتل التنظيم الدموي “لؤلؤة الصحراء” في أواخر شهر مايو/أيار من عام 2015 الماضي. وأذاق أهلها صنوف العذاب.

وفي أوائل شهر يوليو/تموز من العام نفسه، وفي إطار تراجيدي هيأه مسرح تدمر الأثري، وبطريقة مسرحية مؤلمة، أعدم التنظيم 25 جنديا سوريا.

ولم يكتف التنظيم بذلك، فقد قطع جلادوه في منتصف أغسطس/آب من العام الماضي بأسلوب “داعش”، الهمجي الاحتفالي، رأس مدير آثار ومتحف تدمر لأكثر من 40 عاما الشيخ الثمانيني خالد الأسعد، بعد رفضه الكشف عن أماكن الآثار المخبأة، ثم عُلقت جثته المدماة على عمود كهرباء في وسط المدينة.

غير أن تدمر الجميلة الغنية كانت قد أعطت اسمها لمدينة بطرسبورغ الروسية. ومنذ القرن الثامن عشر أصبح الأدباء الروس والأوروبيون يطلقون اسم تدمر الشمال على المدينة الروسية العظيمة، مدينة بطرس الأكبر، تيمنا بتدمر الشرق، مدينة زنوبيا، وذلك لن ينتزعه منها أحد.

وفي هذه المدينة، التي كانت عاصمة الإمبراطورية الروسية، ثم تحول اسمها فيما بعد إلى لينينغراد، إلى مدينة لينين، الذي جعل موسكو عاصمة لإمبراطوريته السوفياتية، ولد فلاديمير بوتين.

وانتقل بوتين مع رفاقه اللينينغراديين إلى موسكو في سنوات التسعينيات الروسية العجاف في القرن الماضي لمد العون إليها، كما كان يحدث في تاريخ المدينتين.

واعتلى بوتين سدة الرئاسة في مطلع الألفية الثالثة، وكانت روسيا آنذاك لا تزال تعاني من آثار إعلان الحكومة الإفلاس في عام 1998، عندما فقد الروبل 70 في المئة من قيمته الشرائية. وعمت البطالة، وأصبح الناس يتسولون في الشوارع، وانتشرت المافيا والجرائم المالية والجريمة المنظمة، والفساد في بلاد القياصرة.

ولم تعد روسيا موجودة على خريطة العالم إلا كدولة فاشلة، تتلقى النصائح الأبوية من واشنطن حول الديمقراطية الانتقالية.

لكن بوتين أعاد بناء الدولة لبنة لبنة، وشرع من جديد بتعزيز العلاقات مع الدول العربية.

ومن بين هذه الدول كانت بالطبع سوريا.

وعندما وصلت إلى دمشق جائحة “الربيع العربي”، التي انتشرت في البلدان العربية، والتي كانت لا تزال تحتفظ بعلاقات غير سيئة مع روسيا، قرر الرئيس الروسي مد يد المساعدة إلى الصديق القديم دون إبطاء.

وغني عن القول إن ذروة هذه المساعدة، كانت عندما بدأت العملية العسكرية الروسية في سوريا في نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، وانتهت باستعادة السيطرة على “عروس البادية”.

قبل أيام، أنقذ الجيش السوري وحلفاؤه بمساندة روسيا الفعالة زنوبيا من أيدي مختطفيها، لتُكتب في تدمر بداية النهاية للتنظيم الظلامي.

وقد أثبت تحرير تدمر ما كان يؤكده المسؤولون الروس دوما من أن الجيش السوري هو وحده القادر على استئصال هذا الدمل السرطاني.

فهل تعيد العمليات الإرهابية في أوروبا المسؤولين الغربيين إلى صوابهم، وتجعلهم يفرحون بتحرير مدينة تدمر، أم أن صورة الرئيس السوري ستظل تجافي النوم عن مآقيهم؟

سيريان تلغراف | حبيب فوعاني

Exit mobile version