Site icon سيريان تلغراف

لماذا سملوا عينيها ؟

احتفت الثقافة العربية بالحكمة وأعلت من شأنها مثل بقية الشعوب والأمم، إلا أن اللافت أن هذه الحكمة المتوقدة التي تمجد الخير المطلق بقيت حبيسة الكتب.

لم يتحول الموروث الثقافي العربي الأخلاقي الضخم إلى رافد فاعل في الحياة العامة، يسهم في نهضة ورقي المجتمعات العربية، متجسدا في هوية عملية تتوارث السلوك ولا تكتفي بالأقوال.

يمكن رؤية هذه الظاهرة المتمثلة في غياب التأثير المباشر للمورث المعبر عن الحكمة من خلال قصة زرقاء اليمامة التي تُظهر بجلاء في رمزيتها وتجليها العلاقة الجدلية بين القديم والجديد، المتخيل والواقع، الغائب والحاضر.

يصف كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه بطلة هذه الحكاية الأسطورية بأنها امرأة كانت تعيش في اليمامة، وأنها تمتعت بقدرة بصرية خارقة جعلتها تلحظ الشعرة البيضاء في اللبن، وترى الراكب على بعد ثلاثة أيام.

وتقول تفاصيل هذه الحكاية المعبرة، بحسب كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، إن قوما من العرب غزوا اليمامة متسترين خلف أشجار اقتلعوها كي لا تكتشف أمرهم زرقاء اليمامة، فلم تر هذا المرأة التي لقبت بالزرقاء لإفراطها في استعمال الكحل إلا شجرا يسير على الأرض، وما رأت أبلغت به قومها، فسخروا منها وانصرفوا عنها.

وما أن أصبح الصبح حتى باغتهم الغزاة وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وقبضوا على زرقاء اليمامة التي سملوا عينيها فماتت بعد أيام.

على منوال هذه الحكاية الأسطورية، ظهر في العالم العربي في العقود الأخيرة العديد من المفكرين والكتاب والشعراء الذين رأوا، مثل زرقاء اليمامة، من أبعد المسافات ما لا تراه العامة، وجهروا محذرين وارتفعت عقيرتهم بما يشبه الصراخ، لكن ما من مجيب، فلم يتغير شيئ، والأمة تسير من نكبة إلى نكسة، إلى ما هو أسوأ وأشد خطرا من كل ما جرى في سالف الزمان. نذكر من بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر العراقي مظفر النواب، والكاتب المصري فرج فودة والمسرحي السوري سعد الله ونوس.

تلوت هذه الأرواح الكبيرة من الألم وانكوت بالواقع المأساوي أكثر من غيرها، وهي لم تهادن ولم تعتزل، بل ظهرت للناس وصرخت ملء حناجرها محذرة من مغبة ما يجري، فقُتل فرج فودة غدرا برصاص التطرف، ومات سعد الله ونوس بالسرطان، وأصبح مظفر النواب طريح فراش المرض.

رأى مظفر النواب الأشجار مقبلة بالخطر، فقال في قصيدته “وتريات ليلية”:” سيكون خراباً/ سيكون خراباً/ سيكون خراباً/ هذي الأمةُ لا بد لها أن تأخذ درساً في التخريب”.

 هذا الشاعر الكبير الذي ذاق أمر الأحزان طرق الأبواب بعنف، وجعل من اللغة مطارق من حديد، لكن رسالته لم تصل، وواصل غزاة الخارج والداخل زحفهم، وهذه المرة لم يعودوا في حاجة لأشجار يتسترون بها، باتوا يأتون في وضح النهار وبموعد مسبق.

وصف مظفر النواب غياب المنطق السوي وقبح الواقع في تعبير مرير وموجع يقول: “يتهمني البعض بأني مبتذلٌ وبذيء، أعطني موقفاً أكثر بذاءةً مما نحن فيه”.

أما فرج فودة الذي اغتاله رصاص التطرف عام 1992 فقد قاتل بالكلمة على أكثر من جبهة، وحاول أن يجعل الآخرين يرون ما يرى، لكنه بنهاية المطاف لم يصل إلى شيء، وذهبت جهوده أدراج الريح، فما كان منه إلا أن أحال عام 1989 صرخاته إلى المستقبل في إهداء حزين استهل به كتابه “نكون أو لا نكون” يقول: “إلى أصدقاء ولدي الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده، تصديقا لمقولة آبائهم عني… إليهم حين يكبرون، ويقرأون، ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى عليّ من رصاص جيل آبائهم”.

سعد الله ونوس بدوره كان درة هذا العقد الفريد، فقد اتخذ المسرح ملجأ ووسيلة لنقل ما يراه خلف الآفاق المدلهمة للناس من حوله، وكان أن امتص كل آلام أمته ومواجعها فداهمه السرطان على وقع حرب الخليج الثانية عام 1991.

ونوس قال في وصف تلك الأحداث المأساوية: “أشك معها في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأميركي على العراق”.

هذا الكاتب الكبير نالت منه كل الخناجر والسيوف والرماح التي مزقت جسد الأمة، وهو أحس بكل الطعنات، واستقبلها كما لو أنه يقف أمامها مباشرة وقال معبرا عن ذلك قبل وفاته: “إن إحساسي الجنائزي سيتضاعف أكثر وأكثر وأنا على حافة هذه التخوم الرجراجة بين الحياة والموت. أعتقد أن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً مثلاً، الكثير من الفرح وأهدرت الكثير من الإمكانات”.

ولم تشأ هذه الروح أن تغادرنا يائسة وقد أدارت ظهرها للخراب، فقد تسنى لسعد الله ونوس أن ينفخ في جذوة الأمل وهو يحتضر، وأن يرحل وهو يلوح بتعبير مفعم بالحلم وباستشراف المستقبل يقول: “إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.

لقيت زرقاء اليمامة في أسطورتها الملحمية مصيرا قاسيا، ومثل هذا المصير لحق على مر التاريخ بالعديدين من أمثالها، أولئك الذين حملوا هموم الناس وكانوا قادرين دوما على أن يكونوا نذر خير وشهود صدق. وعلى الرغم من الخيبات المتوالية، لم تكف زرقاء اليمامة عن استشفاف الخطر وتحذير قومها، وهي في كل مرة تدفع الثمن مقابل ذلك عينيها وحياتها.

سيريان تلغراف | محمد الطاهر

Exit mobile version