ملايين السوريين ممن اعتاد إخوتهم في المعارضة على تسميتهم بالموالاة، أثقلهم الهم وركب الغم نفوسهم حال ما سمعوا نبأ سحب موسكو أبابيلها من حميميم وإعادة نشرها في قواعدها.
وأول ما تبادر إلى أذهان الموالاة في سوريا أن المعارضين والجهات التي ألبت قلوبهم على أبناء جلدتهم أصابوا في حكمهم حينما كانوا ينذرون في جميع المناسبات وحتى قبل العملية الجوية الروسية، بأن موسكو ستتخلى عن “النظام” السوري، وسوف تقطع الحبل فيه في اللحظة الحرجة، “فلا صديق في السياسة، وروسيا جاءت لتبتز وتذهب”.
انقطعت أنفاس ملايين السوريين ممن يفاخرون أصلا بأنهم موالاة، بعد سماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومن على شاشة قناة RT المعروفة بـ”روسيا اليوم” وهو يكلف وزير دفاعه سيرغي شويغو بسحب “القوات الأساسية” العاملة في سوريا، وسارعوا في العتب على فلاديمير بوتين في قراره، بل ندت جباههم على وقع أوامره بالانسحاب.
فطياروه هم من حموا سوريا من الإرهابيين، وقطّعوا أوصالهم ودمروا طرق تجارتهم ومهدوا الطريق إلى هدنة أعقبتها مفاوضات انتظرها السوريون طيلة خمس داميات.
ولم يعد اللون إلى وجوههم التي اصفرت لخطب جلل، إلا حينما سمعوا بوتين يقول لشويغو: “بعد أن تسحبوا تشكيلاتنا الجوية الأساسية، آمر كذلك بأن تعملوا على تعزيز قاعدتنا الجوية في مطار حميميم ومركزنا للإسناد البحري والصيانة في طرطوس وحمايتهما بشكل كامل برا وبحرا وجوا”.
فلاديمير بوتين لم يخذل محبيه، وأثلج صدورهم مرة أخرى، حينما استطرد قائلا لوزير خارجيته سيرغي لافروف: “أكلفكم بتكثيف الجهود وتعزيز حضور بلادنا على المسار الدبلوماسي” لتسوية الأزمة السورية.
قرار الرئيس الروسي صعق الجميع، وقطع الشك باليقين وأثبت مصداقية روسيا، إذ كانت تؤكد ومنذ انخراطها في الأزمة السورية في بداياتها الأولى أنها لم تأت لتحتل، وأن هدفها تمهيد الطريق للسوريين وخلق الظروف التي ستتيح لهم التفاوض وتسوية بيتهم الداخلي بأيديهم، فهم أصحاب الأرض والقرار، والإرهاب وافد عليهم فهو شر لا يمكن استغلاله لتغليب طرف على آخر في بلادهم، بل ينبغي قطع دابره وسحقه.
العملية الجوية الروسية في سوريا والتي أطلقتها موسكو بطلب رسمي من القيادة الشرعية في دمشق أحرزت أهدافها الرئيسية التي تمثلت في دعم الدولة السورية والقضاء على الإرهاب، ووأد القتلة الذين توافدوا على سوريا بتآمر مجرم من أطراف عدة بينها قوى إقليمية ودولية كبرى، إذ خططوا لإعلان “خلافة” قتل وذبح وسراويل قصيرة استحضروها من غياهب التاريخ في سوريا لتتحول في المستقبل إلى منطلق يقاتلون منه روسيا.
العملية الروسية، وكما أكد وزير الدفاع الروسي لقائده الأعلى، آزرت الجيش السوري ومكنته من استعادة عشرة آلاف كيلو متر مربع من أراضيه، وأسندته في استرداد حدود بلاده الشمالية وحقول النفط السورية، فيما هو صار قادرا بمفرده على مواصلة القتال وإعادة بسط سيطرة الدولة السورية على جميع أراضيها.
وفي مقدمة الأهداف التي حققتها العملية حسب المراقبين، ترسيخ عودة روسيا إلى الساحة الدولية كلاعب رئيسي لا يمكن تجاهله في أي بقعة من العالم، وإثبات حقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد الآمر والناهي، والحاكم اللّاكم في العالم، فهي عجزت عن ردع روسيا وأخفقت في ثنيها عن حماية مصالحها، والميدان شاهد.
عامان من الانتصارات الروسية المتتالية وإعادة ترسيخ القانون الدولي والتوازن العالمي، بدءا من تأمين عودة القرم إلى روسيا بعد أن كان الناتو قد فرش بساطه ليستلقي فيه، وصولا إلى انطلاق العملية الجوية في سوريا، وإنهائها بشكل خاطف محرزة نصرا أخيرا وليس آخرا لروسيا بضربة قاضية لم تثنيها.
وبين الأهداف الكبرى التي حققتها موسكو في عمليتها الجوية، فضلا عن إنهاء حلم العثمانيين الجدد في منطقة عازلة شمال سوريا، إثبات قدرات روسيا العلمية والتقنية، ودحض جميع “النظريات” الخرافية التي كانت تؤكد أن ما لدى روسيا من قوة ليس إلا تركة ورثتها عن الاتحاد السوفيتي السابق، وكأن روسيا لم تكن هي التي خلقت هذا الاتحاد وأماتته بإرادتها.
ففي هذه العملية اختبرت روسيا بواكير نتاجها العلمي في أعقاب زوال الاتحاد السوفيتي، وفي مقدمتها صواريخ “كاليبر” التي طالت الإرهابيين في معاقلهم من عمق البحر وسطحه وجوّه ومن مسافة 1500 كلم.
كما اختبرت كذلك، قنابل “كاب” الخارقة المتفجرة التي دفنت الإرهابيين في أنفاقهم وأذهبت تحصيناتهم التي شيدوها تحت الأرض بما أوتيوا من قوة هم ومن كان وراءهم، كما امتحنت مقاتلات “سوخوي-34″، و”سوخوي-35” التي أبلت بلاءا حسنا وقالت بها للغرب والناتو احذروا!
قرار الرئيس فلاديمير بوتين الذي أرّق الصحفيين والسياسيين، بل ربّات المنازل في العالم، جاء ترسيخا لطبع الروس الذين لا يمكن التكهن بالخطوة التي قد يقومون بها في مناوراتهم، وبشهادة عتاة المحاربين والأباطرة، بدءا من قادة جيوش التتر والمغول، وصولا إلى نابليون وجنرالاته وهتلر ومارشالاته.
وبالوقوف على ما كانت تصرح به موسكو حول أهداف عمليتها في سوريا، تستعيد الذاكرة ما أكده شويغو في واحد من التقارير التي كان يرفعها إلى البرلمانيين الروس عن سير العملية الجوية في سوريا، إذ شدد حينذاك على أن جنود الجيش السوري هم الذين سينصبون أعمدة الشريط الحدودي مع تركيا وهم من سيستعيدون سيادة بلادهم على أراضيها. قال فصدق.
الرئيس بوتين، وترسيخا لحقيقة استحالة التكهن بالخطوة التي قد يقوم بها الروسي، ختم أوامره لوزير الدفاع بالقول: لا بد من العمل على مراقبة أجواء سوريا ومتابعة صمود الهدنة على أراضيها.
وفي هذه الأثناء، ترابط عشر سفن حربية روسية قبالة الساحل السوري، فيما ستنضم إليها مطلع الصيف المقبل حاملة الطائرات “الأميرال كوزنيتسوف”، وذلك بعد أن دخلت سفينة الحراسة “سميتليفي” مياه المتوسط في الـ7 من الشهر الجاري لتلتحق بمجموعة السفن الروسية المرابطة هناك، وكأنما لسان موسكو يقول بهذه التحركات، انسحبت وعيني عليك يا دمشق!
سيريان تلغراف | صفوان أبو حلا