بعد البدء بسحب الجزء الرئيس من القوات الروسية الموجودة في سوريا، تبقى الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات بنسب متساوية.
إن بيان الكرملين بهذا الصدد واضح ومحدد. فسوف يتم الإبقاء على القاعدتين الروسيتين في كل من “حميميم” و”طرطوس”، وبالتالى ستبقى قوة ما لحمايتهما، سواء من البر أو البحر أو الجو، كما جاء في بيان الكرملين. والمعروف أن المجلس الفيدرالي (المجلس الأعلى للبرلمان) لم يحدد عدد العسكريين الروس عند مصادقته على إرسال الرئيس بوتين القوات الروسية إلى سوريا.
وفي الحقيقة، لم تحدد موسكو فترة بقائها في سوريا، وإن كان بعض الساسة والنواب تحدثوا عن فترة ما بين 3 و6 أشهر. ولكن ما حدث هو أن موسكو باتت ترى أنها حققت الأهداف المرجوة من تواجدها العسكري هناك. ووفقا لبعض التقديرات، فمنذ بداية تواجد القوات الروسية في سوريا في 30 سبتمبر 2015، نجد أنها ساعدت القوات الحكومية في استعادة نحو 30% من الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش الإرهابي، إضافة إلى إضعاف التنظيم.
من جهة أخرى، لم تسمح روسيا بحدوث أمرين مهمين في الأزمة السورية: إقامة منطقة عازلة فوق سوريا، وإضعاف نظام الأسد إلى حد السقوط. ولذلك كان التدخل العسكري الروسي في 30 سبتمبر/أيلول 2015. على هذا الأساس حافظت روسيا على مؤسسات الدولة السورية بما يسمح لها بمساحة واسعة للمناورة، ويحافظ لها على مكانها في أي مفاوضات، ويحفظ لها نصيبها مقدما من الوجود في الداخل السوري، ومن ثم مشاركتها في صياغة المعادلة السورية بعد التوصل إلى صيغة معينة خلال المفاوضات، سواء كان ذلك مع وجود النظام بشكله الحالي أو مع تغييرات ما.
رئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الفيدرالي الروسي فيكتور أوزيروف قال إنه من الممكن أن يبقى في سوريا حوالي 1000 عسكري روسي، بمن فيهم العاملون في قاعدتي “حميميم” الجوية، و”طرطوس” البحرية. وذلك أخذا بعين الاعتبار عدد العاملين في القاعدتين، إضافة إلى فرقة الحرس البحري وعدد من طائرات الاستطلاع. أما النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الفيدرالي فرانتس كلينتسيفيتش فقد رأي أن قرار الرئيس الروسي قد تكون له أسباب سياسية وليس عسكرية فحسب. ولفت إلى أن روسيا لا تنوي “إحراق جميع الجسور والانسحاب من عملية إحلال السلام في سوريا، وخاصة في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب الدولي”. وفي الوقت نفسه أشار إلى أن روسيا قادرة على “العودة إلى سوريا في غضون يوم واحد وبجهوزية تامة، في حال تطلب الأمر”.
هذا الكلام لا يخرج عن إطار بيان الكرملين الذي وضع النقاط على الحروف، انطلاقا من مصالح موسكو، وليس على أساس تهويمات المحللين والخبراء، أو اعتمادا على مواقف هذا الطرف أو ذاك. ولكن القلق لا يزال يسيطر على الجميع بشأن مستقبل سوريا، خاصة وأن الأحاديث بدأت تدور حول “فدرلة” سوريا تارة، وحول تقسيمها تارة أخرى. ولكن كل القوى الكبرى تؤكد أنها لا تناقش مثل هذا الموضوع، وإن كانت التقارير والمصادر القريبة تؤكد أيضا أن هذا الموضوع تحديدا يحظى باهتمام كبير في إطار المفاوضات الجارية. ولكن موسكو موقفها واضح تماما في هذا الصدد. فنائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف كان قد أعلن في مؤتمر صحفي يوم 29 فبراير/شباط الماضي، أنه “إذا تكللت المفاوضات والمشاورات بالاتفاق على فكرة موحدة بشأن خيار الفيدرالية كخيار يحافظ على سوريا موحدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة، فلا يمكن لأحد أن يعترض على ذلك. ولكن إذا تم اختيار نموذج آخر فنحن لن نعترض إذا كنا واثقين من أنه لم يكتب بإملاء من بعد آلاف الكيلومترات من سوريا، بل تم التوصل اليه خلال المفاوضات”. هذا هو موقف موسكو من دون أي تحريف، وعلى عكس الترجمات التحريفية لكلام ريابكوف، والتي حاولت الإيحاء بأن موسكو تدفع لفدرلة سوريا أو تقسيمها.
كل الاحتمالات تبقى مفتوحة في ظل الاحتكاكات والصراعات الإقليمية بين اللاعبين في المنطقة، وعلى رأسهم السعودية وإيران وتركيا، وفي ظل خططهم على المديين القريب والمتوسط، وإن كان هناك ضغط على هذه الأطراف الثلاثة لكي لا تخرج عن الإطار الذي رسمته القوى الكبرى. وبالتالي، فاتفاق موسكو وواشنطن قد يبدو كافيا إلى الآن لتحديد جملة من المسارات التي تخدم العملية السياسية في مجملها، بينما التفاصيل من شأن الأطراف السورية المتنازعة والتي يجب أن تأخد بعين الاعتبار أن الأزمة السورية قد أصبحت أزمة دولية. أي أن هناك مصالح كثيرة لأطراف كثيرة في سوريا. هكذا صارت الأمور، ومن الصعب إعادتها إلى مربعاتها الأولى. كما أن المرواحة بين مبدأ “كل شئ أو لا شئ” ومبدأ “شعرة معاوية” تشكِّل مغامرة غير محمودة العواقب، وتدفع إلى خيار الحل العسكري كحل وحيد وأخير، أو الاتفاق على إبعاد أشخاص بعينهم من المشهد السياسي. وهي الأمور التي قد تسفر عن نتائج يتوقعها الكثيرون بشأن جغرافية سوريا وتركيبتها الطائفية والعرقية.
لسنا الآن بمعرض حساب الربح والخسارة أو المبالغة في موقف هذا الطرف أو ذاك، أو دور هذه الدولة أو تلك. فالمفاوضات الجارية، وإن كانت هشة مثل الهدنة القائمة، إلا أن الأحداث أثبتت أن لا أحد يريد حربا عالمية ثالثة، ولا أحد يريد احتكاكات إقليمية ودولية توقع المزيد من الدمار والخراب. وبالتالي، نجحت الأطراف المتنفذة في تحويل الملف السوري من ملف حرب إلى ملف سياسي بدرجات ما، وكبح جماح بعض القوى الإقليمية “ذات الرؤوس الساخنة”. ورغم كل ذلك، تبقى جميع الاحتمالات مفتوحة.
سيريان تلغراف | أشرف الصباغ