Site icon سيريان تلغراف

رسالة موسكو إلى الأسد

فهم الكثيرون تصريحات مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين بخصوص جهود الدبلوماسية الروسية في سوريا بشكل يثير الدهشة والتساؤلات.

فقد فهموها بشكل يتلاقى إما مع تمنياتهم وأحلامهم، أو مع انتقاداتهم ومواقفهم المعارضة لهذا الطرف أو ذاك. ولكن هذه التصريحات التي تنطوي على رسالة مهمة، موجهة إلى جميع الأطراف الكبرى التي تمسك بالخيوط، وإلى الأطراف الصغرى المعلقة في الخيوط.

رسالة موسكو من خلال تصريحات تشوركين تركز على التسوية السياسية للأزمة السورية، وتفادي أي تسخين من أي طرف لكي لا تتفاقم الأوضاع وتدخل إلى مسار يصعب التراجع عنه في ما بعد. وهي تراعي بالدرجة الأولي مصالح روسيا ليس في سوريا فقط، بل وفي المنطقة، لأن موسكو لها مصالح متعددة ومتشابكة كدولة كبرى، ولا يمكنها التعامل بزوايا ضيقة مع الأزمات الضخمة، أو الانحراف عن القانون الدولي وتعطيل أي مبادرات من شأنها تحويل هذه الأزمة أو تلك من مسار عسكري إلى مسار سياسي – دبلوماسي، وخاصة في ظل الإعلانات الكثيرة من دول مثل تركيا والسعودية بإمكانية شن حرب برية في سوريا.

لقد صفَّق البعض لتصريحات تشوركين باعتبارها تمثل تراجعا روسيا ما بشأن الأزمة السورية، وهلل البعض لأنه تصور أن روسيا تتخلى عن الأسد. وفرح البعض الثالث لأن روسيا أخيرا أعلنت عن خلافات مستترة. ويبدو أن من تابع مقال الكاتب السياسي سيرغي ستروكان في صحيفة “كوميرسانت” الروسية قبل تصريحات تشوركين بيوم واحد فقط، ربط بين الاثنين، واختمرت في ذهنه “نظرية المؤامرة” على اعتبار أن الدبلوماسية الروسية سربت معلومات أولية لوسائل الإعلام، ثم أكدت عليها بتصريح رسمي، وإن كان صاحبه قد أكد أن هذه هي وجهة نظره الشخصية.

إن الاعتماد على نظرية المؤامرة يمكنه أن يؤدي إلى نتائج نظرية عظيمة تقنع صاحبها ومن يستمع له بأنهم وصلوا إلى سدرة المنتهى في مجال الفكر السياسي. ولكنها لا تؤدي في الغالب إلى أي نتائج في الواقع، بل عادة ما تثير السخرية باعتبارها أضغاث أحلام أو تهويمات هواه. لقد أعرب الكاتب سيرغي ستروكان عن وجهة نظر عدد لا بأس به من المحللين والخبراء الروس الذين ينطلقون في الأساس من مصالح بلادهم، بينما أعرب تشوركين عن رأيه كدبلوماسي يمثل دولة كبرى في مجلس الأمن والأمم المتحدة. ولكن لماذا اتجهت أنظار الجميع إلى “نظرية المؤامرة” والتهويمات السياسية، ولم يحاول أحد التطرق إلى مضمون المقال أو إلى جوهر تصريحات الدبلوماسي الروسي؟ هذا سؤال مفتوح يتعلق بما يسمى “البورنو الإعلامي” وتفريغ الموضوعات والقضايا من مضامينها.

لقد دعت روسيا، وما زالت تدعو، جميع الأطراف إلى الالتزام بما أسفرت عنه اتفاقات جنيف. والحكومة السورية تمثل أحد الأطراف الأساسية والمباشرة في هذه الأزمة وعليها أن تلتزم بما تم التوصل إليه لكي يتمكن الوسطاء الكبار من العمل، ولكي لا يحصل أي من الأطراف الصقور من أنصار الحرب والتدخل العسكري البري على حجج لخلط الأوراق وإشعال المنطقة. في هذا أيضا مصالح لروسيا التي أرسلت سلاحها الجوي لمحاربة الإرهاب في سوريا، ومن أجل أن تكون شريكا مباشرا في الوساطات القائمة، ولكي لا تتكرر مغامرات الغرب كما حدث في العراق وليبيا. لروسيا مصالح كثيرة بالضبط مثل بقية الأطراف التي جاءت من وراء المحيط ومن غرب أوروبا الذي يبعد عن سوريا آلاف الكيلومترات.

إن تنوع الآراء واختلافها، سواء في وسائل الإعلام، أو في الأوساط السياسية لا يدخل في إطار المؤامرة. ومن الصعب أن نطالب سلطة ما أن تقوم بكبح جماح وسائل الإعلام أو فرض رقابة عليها. والأمر ينطبق أيضا على التصريحات السياسية الخاصة والشخصية. ولكن ما يمكن الخروج به من هذا التنوع السياسي وتعدد وجهات النظر هو وجود حوار داخلي في المشهدين الإعلامي والسياسي عادة ما يسفر عن أفضل النتائج أمام أصحاب القرار. وبالتالي، فجوهر المقال المذكور وتصريحات فيتالي تشوركين لا يخرجان عن إطار مصالح روسيا التي لا تقل عن مصالح الأطراف الكبرى الأخرى، بل تتجاوزها في ما يتعلق بضبط الأمن في منطقة مجاورة لها، وعدم نشوب حروب صغيرة يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير محمودة العواقب، ومحاربة الإرهاب قبل كل شئ.

هناك مصالح أخرى كثيرة منها الاقتصادي والجيواقتصادي والجيوسياسي. وأعتقد أن روسيا ليست تلك “البطة السوداء” التي يجب أن تجلس في ركن بعيد تنتظر إلى أن ينتهي “البط الأبيض” من تناول وجبته ثم تذهب لتحصل على ما تبقى. هذا إن وجدت شيئا!!.

لا شك أن تصريحات تشوركين، حتى وإن كانت خاصة وشخصية، تحمل رسائل كثيرة للحكومة السورية ولأطراف المعارضة، ولجميع الأطراف الأخرى صغيرة كانت أو كبيرة. وربما نجد لها تفسيرا ليس فقط في مقال سيرغي ستروكان، بل وفي مقالات ونقاشات وندوات كثيرة في الساحتين الإعلامية والسياسية في روسيا. وفي الحقيقة، هذا أمر صحي للغاية بعيدا عن نظرية “القطيع” والمنع والرقابة، والتضليل السياسي والإعلامي وأصحاب الرأي الواحد والطريق الواحد والصف الواحد، لأن ذلك ببساطة يجعلنا نتفادى التهويمات السياسية وخداع الرأي العام أو خداع الحلفاء الذين يجب أن يلتزموا بأصول التحالف والتعاون ويبتعدوا عن صب الزيت على النار أو افتعال مناوشات صغيرة لتفريغ الجهود الجادة من جوهرها ومضمونها، أو حرفها عن مساراتها التي تخدم الطرفين. ولا شك أن رسالة موسكو للجميع واضحة تماما بعيدا عن المبالغات والخيالات السياسية. فهي أحد الوسطاء والضامنين في الأزمة السورية، وطرف له مصالح أيضا. وبالتالي، فالتعاون الكامل بين الأطراف القريبة من بعضها البعض أمر صحي ومطلوب لتعزيز مواقف هذه الأطراف وليس إضعافها أو التلاعب بها.

سيريان تلغراف | أشرف الصباغ

(المقالة تعبر عن رأي الكاتب حصرا)

Exit mobile version