في الحقبة السوفيتية؛ انتظرت عواصم القرار ومعها المراقبون، بيانات وكالة ” تاس” التي ترفع الى الآن على مبناها شعار المنجل والمطرقة؛ لمعرفة موقف الكرملين الرسمي من الأحداث في العالم.
ويؤكد العاملون المخضرمون في الوكالة العتيدة أن الأخبار والتعليقات كانت “تتفلتر” بطريقة تفوق “فلترة”، خميرة الكونياك الأرمني الفاخر الذي كان يقدم لأعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي حصرا.
خلال تلك الحقبة إذا ظهرت على الشريط عبارة ” تاس مخولة بالتصريح”؛ ضجت الوكالات ورنت الهواتف في مدن العالم. وانكبت الأجهزة المعنية في سفارات عواصم القرار الدولي وتوابعها لقراءة ما وراء السطور، حين كان الكرملين بالمنجل والمطرقة، يطرق الحديد الساخن للأزمات أو يعرض موقفا من قضية داخلية.
انتهت الحقبة السوفيتية، ونعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوما ” دولة العمال والفلاحين ” بإيجاز معبر ” لا قلب لمن رحب بانهيار الاتحاد السوفياتي ولا عقل لمن أعتقد أنه ما كان لينهار” .
منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، لم تعد ” تاس ” مخولة بالتصريح على خلفية خصخصة الصحف وانتشار وسائل الإعلام وتنوعها وظهور عشرات القنوات التلفزيونية المغردة خارج سرب الإعلام الرسمي.
لكن صحفا مقربة من الكرملين يملكها رجال أعمال على صلة بالرئيس، تحظى بامتياز السبق الصحفي الذي غالبا ما يأتي على شكل تسريبات ثم تعقبه تصريحات تؤكد الخبر.
وهذا ما رصدناه خلال اليومين الأخيرين؛؛
” كوميرسانت” الصحيفة التي توصف بأنها ” الأكثر اطلاعا” والمفضلة عند أصحاب القرار، نشرت مقالا بعنوان” الأسد يمعن برغبته في القتال” تحدث بالقلم العريض عن عدم الرضى على تصريحات الرئيس السوري الأخيرة وفيها إصرار على العمليات العسكرية واستبعاد شبه مطلق للحل السياسي.
المقال استشهد بخبراء بينهم وبين الكرملين “هوت لاين” أشاروا إلى أن” إعلانات دمشق تتعارض مع الاتفاقات التي تم التوصل إليها بمشاركة موسكو في جنيف وميونخ” وأن “الرئيس الأسد يفرض نفسه على موسكو باعتباره الضامن للمحافظة على النظام القائم في دمشق بمعزل عن تحقيق الحل السياسي في اطار جنيف”.
وذهبت ” كوميرسانت” بعيدا بالقول ” النهج الذي اتخذه بشار الأسد لن يعرقل تحويل نجاح روسيا العسكري في سوريا إلى مكاسب سياسية، فحسب، بل يهدد باستمرار تسعير علاقاتها مع الغرب والعالم العربي”.
وأضافت صحيفة أوساط الأعمال أن ” دمشق، وفقا للخبراء، تحاول إملاء شروطها على موسكو مستغلة حقيقة أن الرهانات في النزاع السوري باتت كبيرة جدا.. هم يدعون إلى النظر إلى الوضع في سوريا كواحد من الأمثلة التي تؤكد أن الدول العظمى حينما تنجرف إلى نزاعات محلية، وتقف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك من المقتتلين، إنما تصبح رهينة وضع يفرض عليهأ”.
ولم تمض غير أربع وعشرين ساعة، على نشر المقال؛ حتى أدلى فيتالي تشوركين مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة بتصريحات لنفس الصحفية تندرج في نفس السياق مع “فلترة” دبلوماسية شدد فيها على أن تصريحات الرئيس الأسد “لا تنسجم مع الجهود الدبلوماسية لروسيا” وقال ؛؛
“إذا حذت السلطات السورية حذو روسيا بالرغم من التصنيفات السياسية الداخلية، وخط الدعاية السياسية التي يجب عليهم العمل بها، فسيكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة بكرامة، لكن إذا ما ابتعدت عن هذا الطريق على نحو ما فسيكون الوضع صعبا للغاية وبالنسبة لهم أيضا”.
لايمكن استعارة وظيفة ” تاس المخولة بالتصريح ” ونقلها إلى
” كوميرسانت ” لكن الواضح أن الكرملين يضفي عند الحاجة على الصحيفة ” الأكثر اطلاعا ” موقعا أقرب الى التخويل . وليس صدفة أن كل الأخبار المختلطة برائحة مطبخ الكرملين تفوح من ” كوميرسانت ” لتتحول بعد هنيهة الى تصريحات رسمية.
لا نتوقع تغيرا دراماتيكيا في الموقف الروسي، بيد أن نفس الكرملين الطويل الشبيه بصبر الدببة قد يضيق في نهاية المطاف!
سيريان تلغراف | سلام مسافر
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب حصرا)