Site icon سيريان تلغراف

الحرب في سورية تنهي ما بدأته “عاصفة الصحراء” قبل ربع قرن

تنذر طبيعة المعارك والتحالفات الإقليمية والدولية في الحرب السورية برسم خرائط جديدة للشرق الأوسط ظهرت ملامحها الأولى منذ “عاصفة الصحراء” في 1991 لتحرير الكويت.

وتزداد تعقيدات المشهد في الشرق الأوسط بعد نحو خمس سنوات على بداية الأزمة السورية.

فمع تضارب المصالح الإقليمية، وتحول سوريا إلى ورقة في الملفات، بعدما كانت لاعبا مهمًا منذ سبعينيات القرن الماضي، تستعر المعركة على سوريا بين اللاعبين الإقليميين وأتباعهم في الداخل.

وتبرز تحالفات مثيرة للجدل، تنذر بتوسع نطاق الصراع، وخروجه عن السيطرة ليشمل أطرافا عالمية فاعلة، وبتبدل طبيعة التحالفات الإقليمية، بما يمكن أن يفتح الباب أمام تغيرات جذرية في خريطة “سايكس-بيكو”، التي صمدت قرابة مئة عام، حتى جاءت حربا الخليج الأولى والثانية لتفتحا الباب أمام مرحلة جديدة، تراوحت عناوينها بين “الشرق الأوسط الجديد” و” الشرق الأوسط الكبير”، وإضعاف أدوار البلدان العربية الرئيسة الثلاث السعودية ومصر وسوريا بعد سقوط العراق.

ومنذ ربع قرن، بدا واضحا أن التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة الولايات المتحدة ساهم في شق الصف العربي عموديا وأفقيا، وأنهى حالة الحد الأدنى من الإجماع الرسمي العربي مع الانقسام الكبير بين مؤيد للرئيس الراحل صدام حسين وداعم للعملية العسكرية ضده.

وكشف حجم العملية العسكرية، التي أُطلق عليها “عاصفة الصحراء”، أن الهدف يتجاوز تحرير الكويت إلى تدمير مقدرات الجيش العراقي، وبداية تقسيم العراق فعليا إلى ثلاثة أقاليم، مع إضعاف السلطة المركزية في بغداد، وفرض مناطق لحظر الطيران.

ولعل أهم وأخطر ما نجم عن حرب الخليج الثانية هو نعي شعارات القومية العربية إلى غير رجعة مع مشاركة قوات عربية في التحالف الأمريكي ضد الجيش العراقي، الذي طالما وصف بأنه حامي الجبهة الشرقية. وشكلت “عاصفة الصحراء” بداية الصفحة الأخيرة لنظام البعث العراقي بقيادة صدام حسين، الذي انتهى عمليا في غزو العراق في ربيع 2003.

ومع احتلال العراق، تنفست إيران الصعداء مع سقوط نظام ناصبها العداء منذ الثورة الإسلامية، وخاض معها حربا مدمرة طويلة، استنزفها عسكريا واقتصاديا ما بين 1980 و1988. وفي الجهة الأخرى كانت إسرائيل تستغل حالة الوهن العربي لتبدأ في مدريد مفاوضات ماراثونية، لم تستكمل حتى الآن، لكنها مكنتها من حجز مكان لها في “شرق أوسط جديد”، تسوده الفوضى، وتنعم فيه بالاستقرار. وفي الجبهة الداخلية العراقية استغلت طهران الفراغ وانشغال العرب عن بغداد، لتضمن صعود قيادات موالية لها، أو على الأقل لا تمانع في علاقات مميزة وفق توجهات الثورة الإسلامية.

أما في الشمال، فكان الأكراد على موعد لتحقيق حلم الفيدرالية، الذي طالما سعوا له هربا من قبضة صدام القوية، وحملاته المتكررة.

لقد ساهمت الحرب الأمريكية-الأطلسية في إشعال حرب طائفية في العراق بلغت أوجها في 2006 و2007، وعاودت الظهور في العامين الماضيين، ما تسبب في زيادة الشرخ بين مكونات الشعب في العراق، ومغادرة معظم أبناء المكون الآشوري من بلاد الرافدين.

وعلى الصعيد الإقليمي، تلمست دول مجلس التعاون الخليجي تبعات سقوط العراق الخطيرة، وزيادة قوة إيران. وبدأت تركيا في دفع ثمن عدم فتح قواعدها العسكرية للتحالف الدولي لضرب العراق؛ فمع حصول أكراد العراق على إقليم حكم ذاتي ينعم بالاستقرار، ولا يعاني أي مشكلات أمنية خطيرة، انتعشت آمال الأكراد في نحو 19 ولاية في جنوب شرق البلاد في حكم فيدرالي، أو ضمان حريتهم الثقافية وتلبية بعض من مطالبهم السياسية على أقل تقدير.

وربما كان حرص جميع الأطراف المشاركة، أو تلك، التي تنوي التدخل، في حملات على سوريا على عدم إطلاق أي تسمية، مؤشرا إلى أن ما نشهده هو الحلقة الأخيرة من مخطط “عاصفة الصحراء”، وغزو العراق. فقد استقبلت مصر نية السعودية التدخل بريا في سوريا بفتور واضح، وانتقاد مبطن، وتنبؤ بعدم جدوى الحل العسكري؛ ما يعمق شرخا بين البلدين، بدأ ربما على خلفية الحملة في اليمن، وهو مؤهل لأن ينهي شهر عسل بدأ مع الإطاحة بمحمد مرسي وصعود الرئيس عبد الفتاح السيسي.

ومن الواضح أن انعكاسات زيادة التدخلات في سوريا سوف تكون أشد تأثيرا وعمقا مقارنة بسقوط بغداد في براثن الأمريكيين. فالواقع على الأرض يشير إلى تصاعد الدور الكردي مع سيطرة قوات “حزب الاتحاد الديمقراطي” على مناطق واسعة في شرق وغرب نهر الفرات.

وفي المقابل، فإن تركيا بدأت باستهداف القوات الكردية بالمدفعية، ولن تستطيع تجرع كأس حصول أكراد سوريا على منطقة حكم ذاتي، لأن ذلك سيفتح الباب عاجلا أم آجلا على مطالبة نحو 20 مليون كردي تركي بحكم ذاتي، وربما الاتحاد لاحقا مع أكراد العراق وسوريا وإيران لإنهاء مظالم “سايكس-بيكو”، وإعادة تقسيم تركة “الرجل العثماني المريض”.

ويدفع تدخل السعودية وحلفائها إيران إلى زيادة دعمها للرئيس بشار الأسد، ويعمق الخلاف بين مكونات الشعب السوري؛ ما قد يفرز تقسيما بين جيوب مختلفة. وتكشف تصريحات القادة الإسرائيليين عن أمنيات تل أبيب وتصوراتها لمستقبل سوريا؛ فقد قال وزير الحرب الإسرائيلي موشيه يعالون في ميونخ، إنه “يجب أن ندرك أننا سنشهد قيام جيوب (مثل) علويستان وكردستان السورية ودروزستان السورية، قد تتعاون أو تحارب بعضها بعضا”.

ولعل ما يبعث على الأسى أن كثرة التحالفات وتضارب أهدافها على الأرض تمنح إسرائيل نصرا، لم تبذل من أجله أي جهد عسكري يذكر، وقد تتسبب فعلا بتقسيم سوريا، وفرض إسرائيل واقعا جديدا، تواصل فيه احتلالها لمرتفعات الجولان لسنوات طويلة، وتفرض تسوية مع الفلسطينيين على مقاسها.

وعربيا، فإن الشرخ بين مصر والسعودية مرشح للتعمق؛ وربما انتقلت المخططات لإضعاف هذين البلدين استكمالا لمشروع تقسيم المنطقة في شرق أوسط جديد أو كبير، تكون الهيمنة فيه لإسرائيل وربما لأطراف إقليمية أخرى. لكن هذا المشروع يجب أن يخلو حسب المخططات من وجود أي دولة عربية قوية أو تحالف دول عربية قوي.

ومن الواضح أن الدور بعد العراق وسوريا آت على السعودية أو مصر في ظل غياب بوادر حقيقية تؤسس لمنع الهزات الارتدادية لـ”عاصفة الصحراء” وسقوط العراق و”الربيع العربي”، الذي تحول إلى شتاء عاتٍ.

سيريان تلغراف | سامر إلياس

(المقالة تعبر عن رأي الكاتب)

Exit mobile version