منقسمة ومربكة وحائرة وحتى متناقضة تقف أوروبا في مواجهة أكبر موجة لجوء تواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
ولا يقتصر الانقسام على الحكومات بل يمتد إلى شعوب أوروبا التي اضطرت في العام الماضي إلى استقبال أكثر من مليون لاجئ قرر معظمهم خوض غمار البحر على قوارب مطاطية أو قوارب صيد متهالكة للهروب من لهيب الحروب والقتل في الشرق الأوسط. وتستعد القارة العجوز لاستقبال نحو ثلاثة ملايين في العام الحالي.
وبداهة، لا يمكن اختزال تعامل أوروبا في عدد من التصريحات والصور ومقاطع الفيديو لكنها تعطي مؤشرا إلى الانقسام الكبير في التعامل مع هذه القضية. فلا يمكن المقارنة بين جموع متطوعين أوروبيين يراقبون الحدود البحرية لينقذوا ما استطاعوا من اللاجئين من الغرق في البحر، وآخرين يقدمون الماء والطعام والملابس مع من يحاول عرقلة سير اللاجئين وطرحهم أرضا مع أبنائهم. ومن الصعب مقارنة التظاهرات الحاشدة المناهضة للاجئين في مناطق شرق ألمانيا وتلك التي استقبلت اللاجئين بالورود والأغاني على الحدود مع النمسا، او أناس يتطوعون ويتبرعون لدعم اللاجئين والتخفيف عنهم. وأخيرا وليس آخرا، لا نستطيع الجمع بين تخصيص صحف أوروبية صفحات واسعة لتصوير أوضاع اللاجئين والعمل على دمجهم في مجتمعاتهم الجديدة، والتقارير المناهضة للأجانب، أو رسم صحيفة “شارلي إيبدو” الكاريكاتوري الذي سخر من معاناة الطفل السوري الغريق إيلان الكردي ووظفه في حملة ضد الأجانب المتهمين بالتحرش الجنسي في ألمانيا وعدد من المدن الأوروبية في ليلة رأس السنة.
شينغين على المحك….
وتهدد موجة اللجوء الحالية الوحدة السياسية للقارة الأوروبية، ومصير اتفاق “شينغين” للتنقل الحر للأفراد والبضائع، ولا يبدو أن كثيرا من الساسة الأوروبيين يشاطرون “ماما ميركل” رأيها في أن “التعامل بشكل صحيح مع أزمة اليوم التي فرضها تدفق كثير من اللاجئين ودمج أعداد كبيرة من الناس يعد فرصة للغد”. فبعض القادة الأوروبيين يرى في ذلك تهديدا لوجه أوروبا المسيحي، ويخشون من “أسلمة” أوروبا في العقود المقبلة.
وشكل تدفق اللاجئين فرصة للأحزاب اليمينية لتحقيق مكاسب انتخابية وزيادة شعبيتها في عدد من البلدان الأوروبية، وساعدها في ذلك تفجيرات باريس الإرهابية، وحوادث التحرش الأخيرة. وفي ذات الوقت فإن أعداد المتعاطفين مع اللاجئين لم تتناقص كثيرا، ومازال كثير من المتطوعين يقدمون العون للاجئين الجدد.
مشكلات وانقسام شعبي
وتواجه ألمانيا، أكبر بلد مستضيف للاجئين في أوروبا، مشكلات حقيقية في استقبال أعداد اللاجئين المتزايدة جراء الأبواب المفتوحة للحكومة الحالية، ما اضطر أحد المسؤولين المحليين إلى ارسال لاجئين إلى مبنى المستشارة الألمانية بعدما عجز عن استقبال أعداد أكبر في مشهد يشي بحجم المشكلات وعدم قدرة مناطق كثيرة في ألمانيا على استيعاب الأعداد الهائلة. ولا يستبعد أن تطيح سياسة استقبال اللاجئين بحكومة أنغيلا ميركل في الانتخابات المقررة في هذا العام.
ويبدي اللاجئون الجدد تخوفا من ازدياد العنصرية على خلفية أحداث كولونيا. وفي اتصال مع عمار الحجار، وهو لاجئ سوري في ألمانيا، قال إن “العنصرية تصاعدت بعد أحداث كولونيا، على الرغم من وجود ألمان وأمريكيين من ضمن المتحرشين”، وأشار الحجار إلى وجود ضغط كبير على المساكن سببه كثرة أعداد اللاجئين، لكنه أشاد بجهود فريق من المتطوعين الألمان الذين يعملون على حل مشكلات السكن والاندماج.
أما قاسم عبد اللطيف وهو لاجئ سوري وصل إلى السويد منذ أربعة أشهر، فهو يشيد بالحفاوة والمعاملة الانسانية لأبناء الشعب السويدي وتعاطفهم، لكنه يؤكد أن الأعداد الكبيرة من اللاجئين تشكل ضغطا على البلد، وربما كان هذا سبب التأخير في المعاملات والحصول على سكن واحد يجمعه مع عائلته. وعزا عبد اللطيف عنصرية أقل من 5 في المئة من سكان السويد إلى تصرفات بعض طالبي اللجوء المشينة.
اغلاق الحدود وترحيل قسري…
ومع تفاقم أزمة اللاجئين عمد كثير من البلدان التي لم تستقبل أعدادا كبيرة من اللاجئين إلى إغلاق الحدود، وتعقيد الاجراءات الخاصة بإقامتهم ولم شمل عائلاتهم، في مسعى مبطن لتخفيف سيل اللاجئين إليها.
ومن المفارقات التي تجمع بين الطرافة والقسوة طلبت النرويج التي استقبلت نحو 15 ألف لاجئ في العام الماضي السكان بجمع دراجات من أجل إعادة نحو 5500 لاجئ دخلوا اليها من منطقة مورمانسك شمالي روسيا، وفي اتصال مع كاتب المادة، أكد مرفان وهو أحد طالبي اللجوء السوريين في النرويج الأنباء عن مباشرة السلطات النرويجية بترحيل جميع طالبي اللجوء ممن حضروا عن طريق روسيا بعد شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي. وأبدى استهجانه للتعامل بهذه الطريقة مع طالبي اللجوء القادمين من شمال روسيا بالتحديد. وأوضح مرفان أن الشرطة تجمع طالبي اللجوء من دون انذار سابق، و”ترمي بهم قرب الحدود من دون النظر إلى طلب لجوئه نهائيا”، ولا تمنحهم أي فرصة للاعتراض. وقال إن الشرطة تخبر المرحلين أن “عليهم اجتياز الحدود مثلما عبروها أول مرة مشيا على الأقدام أو على الدراجات. وأشار مرفان إلى أن “تعامل السلطات مع طالبي لجوء حضروا من بلدان عربية مستقرة مثل الخليج وغيرها مغاير لتعاملها مع طالبي اللجوء ممن قدموا من روسيا”.
مصادرة أموال اللاجئين…
وأما في الدنمارك، التي استقبلت نحو 16 ألف لاجئ في العام الماضي وتتوقع مثلهم في العام الحالي، فقد أقرت استمرار العمل بمراقبة الحدود مع جيرانها لمنع تدفق مزيد من اللاجئين. وبحث البرلمان الدنماركي جملة من المقترحات المثيرة للجدل والمتعلقة بالهجرة، منها قرار مصادرة أموال وأصول طالبي اللجوء إذا كانت قيمتها تتجاوز 1450 دولارا. وفاز حزب يمين الوسط فينسترة الذي في الانتخابات الأخيرة التي أجريت منتصف العام الماضي، وتعهد حينها بتبني سياسات متشددة بحق طالبي اللجوء وتحظى طروحاته بتأييد حزب الشعب الدنماركي المعادي للمهاجرين والتحالف الليبرالي وحزب الشعب المحافظ. وقالت وزيرة الاندماج في الحكومة الدنماركية إنغر ستويبيرغ إن المبالغ المصادرة من طالبي اللجوء ستستخدم في تحمل نفقات الاسكان والعناية الصحية والتعليم المقدمة لهم. كما يتضمن مشروع القانون الجديد فقرة أخرى تنص على تأخير لم شمل الأسر لمدة 3 سنوات، ويتعين حاليا على طالبي اللجوء الآن الانتظار سنة واحدة للم شمل أسرهم. وينص مشروع القانون ويتضمن على اجراءات من شأنها تعقيد عملية حصول طالبي اللجوء على حق الإقامة الدائمة في الدنمارك وتقليص مدة أذونات الإقامة المؤقتة.
وواضح أن ثقل أزمة اللجوء يتزايد على أوروبا مع عدم وجود أفق واضح لتسوية سياسية تنهي الحرب في سوريا، وتحالفات تنهي تنظيم “داعش” في العراق. ومع امكانية استمرار القتال وتطوره على أسس عرقية وطائفية في سورية والعراق فإن المطلوب من أوروبا رؤية موحدة ومؤثرة من الأحداث لمواجهة موجات اللجوء التي ستتواصل رغم الجدران وسياسة الحدود المغلقة لأن من بأبنائه بركوب قوارب مطاطية أو متهالكة يخوض مجازفة للحياة بعدما فقد الأمل ببقائه حيا.
سيريان تلغراف | سامر إلياس