يتحوّل النزاع في سوريا تدريجاً إلى حدث عادي تقريباً، بل يومي عابر. لا النظام آيل إلى سقوط، ولا الغرب يستعجله، ولا المظلة تراجعت عنه لإتاحة المجال أمام إحداث خلل في واقع لا يزال هو الأقوى فيه. هكذا لم تعد، في حسابات واشنطن، أيام الرئيس بشّار الأسد معدودة.
نهاية هذا الشهر يُغادر مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدرنى السفير جيفري فيلتمان منصبه إلى آخر رفيع في الأمم المتحدة، خارج نطاق البعثة الدائمة لبلاده لدى المنظمة الدولية. وتبعاً لمعلومات ديبلوماسية، تتجه خلافته إلى الرسوّ على إحدى سفيرتين: مرغريت سكوبي التي شغلت منصب السفيرة في دمشق قبل استدعائها إلى واشنطن في 15 شباط 2004 غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتحميل سوريا مسؤولية هذا الاغتيال وتعيينها لاحقاً سفيرة في القاهرة، أو إليزابيت ديبل التي تشغل حالياً منصب النائبة الرئيسية لفيلتمان في الخارجية الأميركية.
كلاهما، ديبل وفيلتمان، زارا لبنان قبل أسابيع: الأولى في 26 نيسان، والثاني في أول أيار. وكان فيلتمان قد لمّح أمام محدّثيه اللبنانيين إلى أن زيارته بيروت قد تكون الأخيرة له للبنان بصفته هذه، قبل انتقاله إلى الأمم المتحدة.
لكن اللافت أن خليفة فيلتمان ستحل في المنصب بالنيابة لبضعة أشهر إلى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية الخريف المقبل، حيث تنبثق منها ورشة تعيينات جديدة في الإدارة، سواء تمكّن الرئيس باراك أوباما من البقاء في منصبه، أو خسر الولاية الثانية. وتفادياً لمثول سكوبي أو ديبل أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ في شهادة استماع تسبق تصويت مجلس الشيوخ على تعيينها ـــ وهما شرطان رئيسيان لتثبيت هذا التعيين ـــ سيصار إلى تعيين إحداهما بالنيابة، نظراً إلى دقة الظروف في المنطقة، وتفادياً لإحراج الإدارة في جلسة الاستماع.
وتورد جهات ديبلوماسية واسعة الاطلاع، على صلة بهذه المعطيات، بضع ملاحظات إضافية حيال موقف الإدارة من الاضطرابات في سوريا، كالآتي:
1 ــ باتت واشنطن واثقة أكثر من أي وقت مضى بأن قطر والسعودية أصبحتا تموّلان الجيش السوري الحرّ، بعدما كان يُعوّل على دعم مالي من شخصيات قطرية وسعودية ومن دول خليجية أخرى بغية شراء سلاحه وعتاده. وتفصح الإدارة عن حصول قيادة الجيش السوري الحرّ، في المرحلة السابقة، على مبالغ مالية باهظة ستتضاعف، وكذلك قدراته، من أجل تمكينه من شراء سلاح أكثر فاعلية في مواجهة النظام، في نطاق قرار قطر والسعودية تقديم الدعم المباشر له.
2 ــ ترجّح واشنطن تمييع دول مجلس التعاون الخليجي انضمام الأردن إليه إن لم يكن رفض الموافقة على هذا الانضمام، بسبب الموقف المتردّد لعمّان حيال دعم معارضي نظام الرئيس بشار الأسد. ولاحظت دول مجلس التعاون، تبعاً للانطباع الأميركي، أن الأردن لا يجاري الموقف الخليجي المؤيد لإسقاط هذا النظام، ولا يساعد المعارضة عبر الحدود الأردنية ـــ السورية على تعزيز تحرّكها. وتبعاً لحجّة ساقها الأردنيون للأميركيين، لم يعد في وسع المملكة تحمّل مزيد من النازحين السوريين إلى أراضيها، وهم يطلبون دعماً مالياً من المجتمع الدولي يسهّل استيعاب هذه الأعداد بتخصيص مبلغ عن كل نازح سوري إلى الأردن.
3 ــ رغم أن تركيا قرّرت دخول معمعة النزاع في سوريا، وتفكر جدّياً في سبل إيجاد منطقة عازلة على حدودها معها تتيح للمعارضة الحصول على قاعدة انطلاق متينة ومحمية بعدما عمدت إلى تسليحها، إلا أنها تفضّل أن ترى منطقة عازلة أخرى بين سوريا ولبنان قبل المنطقة العازلة عند حدودها. وتنظر واشنطن إلى الدعم الذي تقدّمه أحزاب وتنظيمات لبنانية في الشمال والمساعدة التي توفرها للمعارضة السورية، وخصوصاً الجيش السوري الحرّ، وتهريب الأسلحة إليها، فضلاً عن حماية الفارين من ملاحقة النظام لهم، كأحد مظاهر الاستعداد لإنشاء المنطقة العازلة. ولا تجد الإدارة الأميركية أنقرة بعيدة عن دعم ما يؤول إلى هذا الهدف.
4 ــ لا تخفي واشنطن إحباطها حيال ما يتعيّن أن تفعله في سوريا، رغم رغبتها في رؤية الأسد، اليوم قبل غد، يسقط واطمئنانها إلى أن مصيره هذا محتوم. يستطيع تأخير مساره، ولكنه أضعف من أن يلغيه. تثق بأن مهمة الموفد الدولي ـــ العربي كوفي أنان لن تنجح، إلا أنه لا يسعها التخلي عن دعمها لها في الظاهر على الأقل. لا خطة بديلة منها لديها حتى الآن، رغم بضع أفكار متداولة داخل الإدارة في هذا السياق .
تدرك واشنطن أيضاً عدم مقدرتها على استعجال التغيير في سوريا، ولا التأثير في أحداثها، بيد أنها تتنبّه إلى أنه لا أسباب لديها تنبئ بقرب نهاية نظام الأسد، ولا معارضوه قادرون على إطاحته، وترى أن الصراع في سوريا مرشح للاستمرار مدة طويلة. تعتقد كذلك، وفقاً للجهات الديبلوماسية نفسها، أن الأسد أصبح خارج معادلة المنطقة، وهو لن يكون جزءاً من الشرق الأوسط الجديد عندما لا يُسمح له باستعادة الدور والنفوذ اللذين امتلكتهما بلاده في العقود الأخيرة.
يعكس هذا الموقف في رأي الجهات نفسها استبعاد مبادرة أميركية خارج نطاق الدور الذي تضطلع به الأمم المتحدة. لا تقويم جديداً لتصاعد العنف في سوريا بعد أكثر من شهر على وقف النار لم يدخل جدّياً حيز التنفيذ في ظلّ إصرار النظام على العنف، وتراجع فرص الحوار الداخلي الذي نصّت عليه خطة أنان. أضف اتساع الشروخ في أوساط المعارضة السورية.
كمنت الملاحظة الإيجابية الوحيدة في هذه المراجعة، في أن الجيش السوري الحرّ، على جسامة الأضرار والخسائر التي يُلحقها به الجيش النظامي، أضحى أفضل حالاً وأكثر حماسة للمضي في النزاع الدامي، وقد تحسنّت شروط المواجهة رغم انقسام المعارضة.
5 ــ تقول واشنطن إن إيران تعرف تماماً أنها بتأييدها سوريا تضع العالم العربي برمته في مواجهتها. مع ذلك، تبدو حسابات طهران مختلفة عن هذا التقدير، عندما ترى خسارتها أقرب أصدقائها إليها ـــ وطريقها إلى حزب الله ـــ أكثر كلفة من خسارة العرب الباقين. في المقابل، لا تكتم واشنطن سرّاً فاتحتها به السعودية، هو استعدادها لمدّ السوق العالمية، عبر البحر الأحمر، بما تحتاج إليه من النفط متى وجّهت إسرائيل ضربة عسكرية قاسية إلى إيران.
الاخبار