لا تنفك واشنطن عن تقديم نفسها على أنها قوة استثنائية، وهي تعد مواقفها معيارا للسلوك المثالي، على الرغم من أن أخطاءها جعلت منطقة الشرق الأوسط مزيجا من الركام والفوضى.
يمكن تشبيه السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط براكب الدراجة النارية الذي يواصل اندفاعه كي يتفادى السقوط، إلا أن المشهد حيث تمر آلتها العسكرية الفتاكة في كل مرة يصبح هو ذاته حالكا وقانيا ومأساويا، ولا يعقبه إصلاح بل المزيد من التكتيكات التي توسع الخراب وتنشر الموت أكثر.
وسوريا في هذا السياق الطويل من الأخطاء الكارثية ليست استثناء. فبعد أن فشلت خطط الولايات المتحدة في تدريب أفراد “معتدلين” من المعارضة السورية اختارتهم بعناية، وخصصت لهم 500 مليون دولار، تحولت واشنطن عنهم بعد أن خذلوها ونقلوا الخبرة الأمريكية التي اكتسبوها والأسلحة التي زودوا بها إلى جبهة النصرة ربيبة تنظيم القاعدة.
لم ينجح المشروع الأمريكي في تشكيل فرقة أمريكية خاصة توضع في خانة المعارضة “المعتدلة”، فلجأ البنتاغون إلى “تحوير” استراتيجيته في سوريا بالإعلان عن الإيقاف المؤقت لتدريب المعارضين السوريين، والتركيز على تسليح قيادات “مجموعة منتقاة” من هؤلاء.
المتحدث باسم الخارجية الأمريكية جون كيربي في هذا الخصوص صرح في لهجة الواثق المتبصر قائلا: “لا أحد يترك إلى الأبد فكرة التدريب، كل ما هناك هو إيقاف مؤقت، بينما يتم التركيز بشكل أكبر على جانب التجهيز”.
ما يمكن فهمه من هذا التصريح أن الولايات المتحدة التي لا تكل من وصف العمليات العسكرية الروسية في سوريا بأنها طائشة وخطرة ستتجه مباشرة إلى تسليح معارضين سوريين، متخلية عن برنامج “تأهيلهم” العسكري وذلك لمحاربة داعش، التنظيم الذي عجزت طيلة عام، غارات التحالف الدولي الذي تقوده عن التأثير على قوته وسطوته في سوريا وفي العراق.
إذن، ستذهب واشنطن بنفس استراتيجيتها وبشكل معكوس إلى إرسال الأسلحة والمعدات القتالية إلى مجموعات، أكد جون كيربي، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية في هذه المرة أيضا أن بلاده لديها “قدر من الثقة في التركيز المتوقع منهم على داعش”، وهي تفعل ذلك من دون أن تكشف عن هوية هذه المجموعات التي ستنال رضى واشنطن ومعداتها القتالية.
برنامج التدريب الذي أقرته الولايات المتحدة في مايو/أيار الماضي كان يستهدف تدريب 5000 شخص في كل عام لثلاث سنوات. ويتم انتقاء هؤلاء بعد التدقيق في “خلفيات” جميع المتقدمين لهذه المهمة.
إلا أن الولايات المتحدة لم تتمكن من تجنيد عدد كاف كما كانت تخطط، وبقي من أصل 54 مقاتلا دربتهم 4 أو 5 أشخاص فحسب في الميدان، بحسب الجنرال لويد أوستن قائد عمليات القيادة المركزية الأمريكية للمنطقة الوسطى.
ولم ينته الفشل المتلاحق عند هذا الحد، إذ هاجم مسلحو جبهة النصرة الدفعة الأولى من هؤلاء ما أن اجتازوا الحدود التركية، واحتجزوا 7 منهم ثم أطلقوا سراحهم، فيما سارع أفراد الدفعة الثانية إلى تسليم أسلحتهم إلى نفس التنظيم المرتبط بتنظيم القاعدة.
وفي المحصلة، من بقي حيا ممن دربتهم الولايات المتحدة وسلحتهم بهدف محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” انتقل إلى منافسته جبهة النصرة، ورجعت الولايات المتحدة، كما يقال في مثل هذا الموقف، بخفي حنين.
سيريان تلغراف | محمد الطاهر