من دون الهجوم على مدينة جسر الشغور، كان يمكن الاكتفاء بإحصاء أربعة مسارات، متفاوتة الأهمية، تحيط بالعملية السياسية في سوريا.
جسر الشغور، التي تعرضت إلى غزو من تحالف تركي ـ سلفي، وإلى احتلال تركي بالوكالة، تقوم به “جبهة النصرة” و”الفصائل الإسلامية” الأخرى، تفتح مساراً خامساً في الحرب على سورية، يهدد كل المسارات الأخرى التي تبحث فيها المعارضة وحلفاؤها عن إعادة تشكيل صفوفها، سواء كان ذلك في مؤتمرات كازاخستان، أو السعودية، أو مصر، أو مع المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في جنيف، حيث يبدأ المبعوث اختبار إحياء رميم العملية السياسية خلال شهرَين مفتوحَين من المشاورات، لا تستثني، للمرة الأولى، ممثلي المجموعات المسلحة من كل الاتجاهات، إلا ما وضع منها على لائحة الإرهاب، مثل “داعش” أو “جبهة النصرة”.
جسر الشغور التي اجتاحتها عشرات الأرتال من الجماعات “الجهادية”، هي نفسها التي استخدمتها المخابرات التركية في عملية كسب قبل عام، لاختراق الساحل السوري، وأخفقت.
وتعكس العملية تبلور تحالف قطري ـ تركي ـ سعودي متين في الشمال السوري حول غرفة عمليات إنطاكيا، التي يمكنها وحدها، تنسيق وقيادة عمليات من هذا النوع، وعلى هذا المستوى من التخطيط. كما تعكس احتدام الصراع، والعمليات العسكرية، لإسقاط أوسع جبهات ممكنة في الشمال السوري، وانتهاز فرصة الهدنة التي تلتزمها إيران، وضيق دائرة المناورة الديبلوماسية والعسكرية لحليف دمشق، عشية توجهه نحو تحرير نص الاتفاق النووي النهائي مع الولايات المتحدة، وهو أحد الأثمان الميدانية التي قد يدفعها السوريون، ريثما تتضح التسويات والاتجاهات الإقليمية ما بعد الاتفاق.
ولا ينبغي التساؤل عما إذا كانت “عاصفة الحزم”، والعدوان السعودي على اليمن، سينبتان فرعاً سورياً لهما أم لا، إذ إن “عاصفة الحزم” واقع قائم في الشمال السوري، فيما استطاع الجيش السوري و “حزب الله” استيعاب آثارها في الجنوب والاستيلاء على مثلث من القرى في أرياف القنيطرة ودرعا ودمشق، كان يستهدف محاصرة الجيش السوري وسط حوران، والتقدم من ريف دمشق الغربي الجنوبي نحو العاصمة.
والأرجح أن فشل التقدم جنوباً، وتسارع الاتفاق النووي الإيراني – الأميركي، عززا قوة الاستقطاب ضد سوريا، إلى حد موافقة جميع الفصائل، “إخوانية” أو سلفية “جهادية” وأمراء الحرب من كل اتجاه على توسيع العمليات العسكرية في الشمال السوري، للسيطرة على شريط من المدن يشمل إلى إدلب وجسر الشغور جزءا من أرياف اللاذقية وحلب، بعد أن استأثر “داعش” بالرقة ودير الزور، ورفض الأكراد الانضمام إلى مشروع تركي ينهي أي أمل بإنشاء الإدارة الذاتية، ويقضي على آفاق تطويره.
ومن أجل ذلك، يستأنف السعوديون والأتراك والقطريون، في إطار الهجوم الشامل الذي تقوم به الرياض في المنطقة، مساراً مفتوحاً منذ أعوام، ضد الجيش السوري، تجلى في الهجوم على مدينة إدلب وإسقاط معبر نصيب الأردني – السوري، بقرار سعودي، من دون أن يكون له أي أهمية إستراتيجية، باستثناء الحاجة إلى أكبر عدد من ممكن من الضربات المعنوية إلى السوريين، حتى ولو خسرت عمان أكثر مما تكسب، وهي لا تكسب شيئاً.
وتقول مصادر في المعارضة السورية إن التحضير لغزو الشمال السوري بدأ منذ آذار الماضي، بعد إعادة هيكلة غرفة العمليات في إنطاكيا، وإن اللمسات الأخيرة وضعت على الخطط خلال الزيارة التي قام بها ولي ولي العهد السعودي محمد بن نايف إلى أنقرة في السادس من نيسان الحالي.
ويقول مسؤول سوري معارض، يتابع العمليات العسكرية، إن أكثر من 20 ضابطاً من الاستخبارات السعودية رافقوا محمد بن نايف، ونسقوا العمليات مع الاستخبارات التركية. وبحسب المصدر فقد أدى اختيار المجموعات التي ستقوم بالعملية إلى خلافات مع الاستخبارات الأميركية، وإلى استقالة القائد السابق للعمليات الخاصة في القيادة المركزية الأميركية الجنرال ميخائيل ناغاتا، الذي يشرف أيضا على تدريب ما تسمى “بقوة المعارضة المعتدلة” و “الجيش الوطني الحر”، بالتفاهم مع الأميركيين.
وكان الأتراك والسعوديون قد اطلعوا الأميركي المستقيل على قرارهم بمواصلة الاعتماد على القوى الأكثر فاعلية في القتال، مثل “النصرة” والجماعات الشيشانية التابعة للاستخبارات التركية، وانعدام فائدة الرهان على إنشاء مجموعات مقاتلة جديدة لا تمتلك خبرة كافية.
ورجح الخيار التركي – السعودي في فرض “النصرة” والجماعات “الجهادية” التي تعمل معهم، باعتبار أن القوة الوحيدة التي يمكنها مواجهة “داعش”، كما يطالب الأميركيون والحد من انتشارها في الشمال السوري، لا يمكن أن تكون إلا “جهادية” سلفية، ومن الطبيعة نفسها، وأنه لا يمكن لأي قوة “علمانية” أو غير ذي طابع “جهادي” سلفي أو إسلامي أن تواجه “داعش” مستقبلا أو الجيش السوري.
كما أقر القطريون والأتراك والسعوديون، من خلال عملية جسر الشغور، بمحورية دور “النصرة”، ولذلك لم يعد مطروحاً، على الغالب، أي جهد لمواصلة الضغط عليها، لكي تنقض بيعتها إلى تنظيم “القاعدة”، قبل ضمها إلى القوى “الثورية” وإعادة تأهيلها، إذ إن أقصى ما حصلت عليه مساعي إقناع أبو محمد الجولاني هو تغريدتين متناقضتين، جاءت الأولى من “شرعي النصرة” جنوباً سامي العريدي، الذي سخر من العرض، فيما قال أبو البراء الشامي، أحد مؤسسي الجبهة، إنه لا ضير من نقض البيعة إذا كان في ذلك فائدة لـ “الثورة”.
والأرجح أن الخوف من الأثر العكسي للضغوط هو الذي دفع الأتراك والقطريين والسعوديين إلى تجاهل الطلب الأميركي، لأن نقض البيعة لـ “القاعدة” كان سيؤدي إلى هجرة مقاتلي “النصرة” إلى داعش، وانقسامها مجدداً.
وشكلت غرفة العمليات من قوى تبايع “القاعدة” كلياً أو جزئياً، من “جبهة النصرة”، فالمجموعات الشيشانية في “جنود الشام” التي يقودها مسلم الشيشاني، و “لواء الفرقان”، و “أحرار الشام”، وكتيبة تركستانية حديثة التشكيل، قتل الجيش السوري 13 من مقاتليها في إحدى غاراته قبل يومين على تل حمكي الاستراتيجي. ويقول المصدر إن المقاتلين حصلوا، عبر التمويل السعودي، على كميات كبيرة من الصواريخ الأميركية المضادة للدبابات من طراز “تاو”، بالإضافة إلى المخزون الذي استولت عليه “جبهة النصرة” من مستودعات حركة “حزم”، المصنفة “معتدلة”، عندما قامت بتصفيتها قبل ثلاثة أشهر في سلقين.
وتعبر العملية عن مدى تحول الساحة السورية، من ساحة حرب، إلى بؤرة مفتوحة لتصفية حسابات سعودية – إيرانية – تركية بأدوات لم تعد بالضرورة محلية، بعد أن فشلت المعارضة السورية في تكوين جناح مسلح يعتد به قادر على فرض سلطتها على مجرد قرية من القرى التي تسيطر عليها، وصمتها بعد أن رد رئيس “مركز دعاة الجهاد” ورأس الهجوم السلفي “الجهادي” على إدلب عبد الله المحيسني، على طلب “الائتلاف” إقامة إدارة مدنية في إدلب، مجيباً بأن “من دفع الدم، هو من يدير الأرض، ويطبق الشريعة”.
سيريان تلغراف