في القارة الأوروبية، يعـيش العـديد من أبناء سوريا… هنالك من زارها سائحا وآخـر قـصدها للتجارة، والبعـض ذهب باحثا عن العـلم والتخـصّص فأحـبّها واستقـرّ فيها وتعـرّف على تاريخها وعلى حضارتها وأتقن لغاتها وكتب ونشر وبرّز… وبقي الأوروبي يجهل حتى موقع سوريا على الخريطة.
وحتّى شهرأذار2011، لم يسمع الأوروبي عن سـوريٍ انتحاري، قاتل، مجـرم، سارق، بائع مخدرات، مغـتصب، او محتال. ولم يسمع عن لاجىء سوري غـرق امام صخـور سواحل اليونان او شـواطىء لامبدوزا الايطالية… وكانتْ ولا تزال سمعة ابن سوريا محترمة لأنه يتصرّف ويدرس ويعمل بِصمتٍ وجدّ، لأنه يحمل في أعـماق قلبه تاريخا مجيدا وحضارات عريقة. وهذه أوابد ماري وايبلا واوغاريت واباميا وآثار تدمر خير شاهد.
وبين ليلة وضحاها، صار العـديد من الأوروبيين يعـرف تلبيسة وجوبر ويميّز بين درعا البلد ودرعا المحطة. ولما احـتـلّ الشوارعَ بعضُ المواطنين، مطالبين بالإصلاح والحرية والديموقراطية، اخترقـتْها القوى المأجورة، فَتحـوّلتْ شعاراتها من ” سلمية سلمية، اسلام ومسيحية ” الى صراخ لم تعهده سوريا : “المسيحية عَ بيروت والعـلوية عَ التابوت”… واستُبدلتْ المطالب المعـقولة بالتحـريض الطائفي، وظهر بعض السلاح الغادر أثناء التظاهـرات، ذهب ضحيته عدد من الأبرياء، تلاه تفجـير جسـر أثناء مرور قـطار. وقد طفح الكيل حين حصلت مجـزرة جسرالشغور واستشهد 120 شرطي ومجنّد…
هذه الأحداث الأليمة دفعـتْ السلطات الى بعـض التشدّد، رغـم أنها سبق وباشرتْ بالتجاوب مع المطالب المحِـقّـة وبدأتْ بمعالجة الأخطاء وصدر عفو عن العديد من المساجين وباشرتْ بإعداد دستور جديد وحـدّدتْ موعـد انتخابات برلمانية… لكن هـذه الخطوات لم تجـدِ نفعا… وشهدنا بوادر حـرب عالمية خلال عام 2011… وامام وطن عصي وجيش جبار وشعـب صابر صامد ورئيس حكيم، فشل المخططون ومعهم “جـيشهم الحر ومجلسهم العثماني” الموعـود بانهيار سـوريا واستلام السلطة كما فشل معهم الغرب وعربان الجاهلية، أحفاد بني قريظة، وحفيد جزّاري بني عثمان، السيء الذكـر…
لقد بلغـتُ من العـمرعتيا متنقّلاً بين دول شرقية وغربية، لمتابعة تحـصيلي العـلمي وعملتُ طوال عشرين سنة في سويسرا وحـصلتُ على جـنسيتها وأعيش الآن متقاعدا فيها وأقضي معظم ساعات النهار في متابعة أخبار الوطن والكتابة لِ مواقع وصحف سورية وغربية داعيا مدافعاً مبيّناً المظالم التي تلحق بالشعـب السوري جراء تدخّل الغـريب في شؤوننا. كما أني أكتب وأحاضر واسعى لِ إيصال صوت سورية الحرة الى شعب جاهل محدود الرؤيا. يساعدني في هذه المهمة إتقاني عدّة لغات أجنبية وعلاقات متينة حرة نسجتها مع بعض أبناء البلد…
لكني أعيش غربتي غربتين بسبب الجهل والسطحية : حين أقابل صديقا او زميلا أو جار سكنٍ، الكل يحمل في جعبته سؤالا يطرحه حين نتقابل في الطريق، في المصعد، او صدفة. والسؤال واحد حتى عند صديق متعاطف محتار وتدورحول السيد الرئيس بشار الأسد (الذي يقـتـل شعبه ويدمّر سوريا). فَ أتحلّى بصبر أيوب وأدعـوه الى مشاركتي القهوة كي أشرح له أن ما يـبثّه الإعلام الأوروبي مصدره منحاز ومصداقيته معدومة، لأن من يسدّد تكاليف عمله وأقامته في فنادق الخمس نجوم، يملي عليه الأخبار المزاجية والتحاليل المغلوطة التي تتناسب ومخطط عرّابي معركة تدمير كل من يخالفه الرأي…
في مقالي هذا، سَوف استعرض حالات ثلاث من مستفسر متعالٍ، من متسائلٍ متعاطف ومن سائلٍ مقتنع واثق :
.ـ يوم 11.11.2012 كنتُ في زيارة كاهن لبناني صديق في شمال فرنسا. فَ دُعي ورافقته الى إحتفال وطني… بعد انتهاء المراسم، قدّمني كَ صديق سوري الى أحد المسؤولين، الذي سارع وسألني بشكل متعالٍ واثقٍ من إحراجي :
” لماذا ( السيد الرئيس بشار) الأسد يقـتـل شعب سوريا ويدمّر مدنها وقراها ؟…”
فقلتُ له : “هل تعلم يا سيد أن السيد الرئيس بشارالأسد كان ضيف الشرف وجالسا قرب السيد ساركوزي يوم العـيد الوطني الفرنسي في 14.7.2008؟ وبعـد سنوات ثلاث قالت فرنسا أنه فاقد الشرعـية وحكـمه سينهار خلال اسابيع ؟… وهذاجـوابي على سؤالك: الأمبرطور نيرون أمر بِ حرق روما كي يكتب قصيدة يصف مشاعره وهو يرى شعبه يحترق، ورئيسنا يقتلنا ويدمرّ سوريا كي يكـتب واصفا احاسيسه في رسالة لِ الرئيس ساركوزي الذي استقبله وكرّمه. ثم تابعـتُ : ما كنت اتصوّر سماع هكذا سؤال من رجل دولة يعرف حقيقة الأحداث ومسبـبّـيـها وداعـمـيها وأهدافهم !”
فبانتْ على وجه محدّثي بسمة من يجرّ ذيول الخجل… وهكذا انتهى بيننا الكلام المباح.
.ـ خلال عشاء جمعـني بِزملاء قدامى، تحوّل الحديث نحو سوريا أثناء تناول القهـوة، فَسأل أحدهم بِ تعاطف وصداقة :
” لماذا رئيسكم الشاب المثـقّـف والتقدّمي يـقـتـل الشعب السوري ويدمّر المدن والقرى ؟…”
لمّا شعرتُ بأن سبب سؤاله هو جهله لما يحدث في سوريا ومن يسيّر ويموّل ويسلّح ويدعم المجموعات التي تحارب الدولة. بِ جوابي، حاولت دفعه لإيجاد الجواب المنطقي من تلقاء نفسه، وقلت :
- كيف لِ رئيس دولة أن يستمرّ في الحكم لو كان يقتل شعـبه ويدمّر بلاده وأميركا والناتو ودول البترول تحاربه ؟…
- كيف لِ جيش أن يبقى وفياً لِ رئيسه وهو يعـرف أن هذا الرئيس يقـتـل شعـبه ويدمرّ المدن والقرى حيث أهله ؟…
- كيف لِ ضابط أن لا ينشقّ ويقبض عشرة الاف بترودولار وهو يعرف أن رئيسه يقتل الشعـب ويحرق الوطن؟…
- كيف لِ شعـب يرى الموت حوله ويعاني من الغلاء والبرد والمرض، ويستمر موحداً حول رئيس خائن عميل ؟…
- كيف لِ رئيس يقتل شعـبه ويدمّر بلاده ان يحـصل على نسبة 88% من أصوات الناخبين لو لم يكن شعـبه يؤيّده ؟…
قبل إنهاء حديثي، ونظرا لتأخرالوقت، علّق أحدهم على أسئلتي، بكثير من الإيجابية، واقترح عليّ أن أقدم محاضرة أعـرّف المشاركين على حقيقة ما يجـري في سـوريا. تقبلّتُ الإقتراح بِ سعادة… وبعـد المداولات وتعهّد أحد الأصدقاء الإهتمام بِ المكان والدعوة، تقـرّرت المحاضرة مساء 25.9.2013
وبالتاريخ المذكور، ألقيتُ محاضرة باللغة الإيطالية، تحت عنوان : “سوريا عبر التاريخ” كان الحضور محدودا لكن مميّزاً، تلاه عشاء سوري بالعـطر الشامي، مع الهريسة النبكية وحلاوة الجبن الحـموية ثم القهوة السـورية، وعلى أنغام يا مال الشام وعـرض بعض معالم سوريا. كانت التعليقات رائعة وردّات الفعل إيجابية…
وقد نشر موقع دام بريس ترجمة ملخص المحاضرة بتاريخه. وعلى من يهمّه قراءة النص أن ينقرعلى غوغل اسمي كاملا، وعنوان المحاضرة كما يمكن ايجادها على موقعي الخاص.
.ـ خلال صيف 2014، قابلتُ صدفةً مدير شركة بلجـيكية. وكان لا بدّ لي من سماع تعـليقات المقتنع الواثق حول الأحداث. وحين وصل في تحليله الى سوريا والقى عليّ سؤاله القـنبلة :
” لماذا ( السيد الرئيس بشار) الأسد يقـتـل شعب سوريا ويدمّر مدنها وقراها ؟…”
أقترحتُ أن أجيبه على استفساره أثناء استراحة الرابعة… وكانتْ الرابعة ونزلتْ عليه أسئلتي كَ ’زخّ المطر‘ قلتُ :
- هل سمعـتَ يوما نشرة أخبار محايدة وجهة نظرها مخالفة للمصالح الغربية الإقـتصادية والجيوسياسية ؟…
- لماذا وكالة سانا السورية محظورة في الغرب، والسيد رامي عبدالرحمن يوزّع أخبار الحرب من لندن ؟…
- لماذا أغلق الغـرب سفاراته في دمشق، أليس كي لا يسمع الحـقـيقة من قلب بلد يعاني من ويلات الحرب؟…
- لماذا فرض الغرب عقوبات إقتصادية على سوريا، أليس كي يجـوّع الشعب فَ يثور على دولته الشرعية ؟…
- لماذا تُـدمَّـر سوريا، أليس لأنها رفضتْ عبور خط الغـاز الخليجي القـطري شمالا باتجاه تركيا واوروبا ؟…
- أليستْ معامل صناعة الأسلحة الغربية هي المستفيد الأول والأخير من استمرار هذه المعارك في سوريا ؟…
- ورفض سوريا الإقتراض من البنك الدولي، ألا يستوجب معاقبتها كي تخضع لشروط ومصالح الغرب ؟…
- إذا كانتْ سوريا دولة مارقة، كيف تُدعى دول تموّل وتسلّح من يقطع الرأس ويأكل القلب ويحرق الإنسان؟…
- لماذا تحاربنا مملكة الرمال وأتباعها، أليس لرفضها اسلام سوريا المعتدل وعلمانيتها المشرقية الفريدة ؟…
- لماذا ينسى الغرب نبؤاتٍ مشؤومة، أطلقها اشعـيا وعاموص وارميا، حول حرق وتدمير دمشق آرام ؟…
اسمح لي أن أضيف يا صاحبي : أربعون سنة والغرب يحارب سوريا لأن “نظام الأسد” فاسد، مارق، ديكتاتوري، ظالم، قاتل، لا يحترم حقوق الإنسان!…
طوال اربعين سنة وهذه الدولة التي تحاربون تحكم سوريا :
- لم تدمِّر كنيسة أومسجدا أو مدرسة أو مستشفى أو محطة كهرباء أو معمل أدوية أو نسيج أو كونسروة !
- لم يُخطف أسقف أو كاهن أو راهبة، ولم يُذبح شيخ أو راهب أو عالم ولم يُدمّر مزار أو مرقد أو صليب !
- لم يُدمّـر موقعاً أثريا أو نصبا فنيا ولم يُسرق متحفا ولم تُنهب أو تُحرق مخطوطات وأيقونات الأديـرة !
- قد أوصلتْ الماء والكهرباء والهاتف والآنترنيت الى أصغر قرية في سوريا وربطتها بالطريق الدولي !
- لا تزال تدعم الخبز والربطة بِ 25 لٍ. س. وتدعم المازوت والسكر والأرز والزيت والسمنة والطحين !
- تؤمّن الدراسة مجانا من الحضانة الى الجامعة. أما نسبة الأمية فَ لا تتجاوز الخمسة بالمائة في سوريا !
- حتى اليوم وبعد اربع سنوات حرب، الدولة لا تزال تدفع الرواتب حتى في بعض مناطق سيطرة داعش !
هذا يدل على أن سوريا دولة قوية بِ أبنائها المصمّمين على محاربة الإرهاب، ودعم حكومتهم، رغم ماساتهم الإنسانية التي يعانون منها منذ سنوات اربع… لكن على الغـرب الذي أدرك أخيرا ـ أو اضطـرّ أن يدرك ـ أن يصارح الرأي العام الغـربي، حقيقة الإرهاب المستورد وضرورة البحث عن الحلّ ، ويتابع بِ جدّية حراكه الدبلوماسي الذي تشهده دمشق.
لقد كتب الصحافي الملهم ناهض، حتر في جريدة الأخباراللبنانية، بتاريخ 6.3.2015
” جئتُ إلى خندق الدولة السورية من موقع المعارضة اليسارية. ففي وقـت مبكر من ربيع 2011، اتضح المشهد في سـوريا: لا ثورة ولا ثوّار، بل عدوان أميركي ـ صهيوني ـ رجعي عربي ـ إرهابي، هدفه تحطيم الدولة العلمانية، الوحيدة، في العالم العربي، التي تملك منظومة انتاجية ومتحرّرة من الدّين العام، وتستند إلى جيش عقائدي معاد للصهيونية وتختطّ في السياسة الخارجية، نهج الاستقلال والمقاومة.”
كلمة أخيرة : في سوريا حين نذكر فرنسا أو رئيسها، نقول : الدولة الحكومة… السيد ، الرئيس… يرجى أخذ العلم.”
لوجانو، في 10.3.2015
سيريان تلغراف | فؤاد عزيز قسيس
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)