لو يقرأ ساسة فرنسا ما نشر في مكتباتهم منذ بداية الازمة السورية لربما صححوا الخلل الكبير الذي وقعوا فيه. من هذه الكتب واحد بعنوان “: ” Le chaos syrien ( الفوضى السورية)، بتوقيع الكسندر ديل فال ورندة قسيس، وصادر عن دار نشر “DHOW EDITIONS”.
في الكتاب معلومات كثيرة تكاد تُجمع على أن لا فرق بين داعش والنصرة والقاعدة والجيش الحر والجبهة الاسلامية وغيرهم. كلهم ينتمون الى عقيدة متطرفة، وكلهم مارسوا العنف الارهابي، وبعضهم استخدم الغازات السامة. أما التمويل، فيجزم الكاتبان بأنه خليجي، وبان طرق العبور دائما هي تركيا.
كل هذا معروف، لكنه مهم لأنه يتضمن الكثير من المعلومات والتحليلات المفيدة والجريئة. ويضع الإصبع على أولئك الارهابيين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب يدمرون سورية ليعيدوها الى عصور التخلف والانحطاط. ثم لأنه بفضل الجهود الواضحة لكل من فال وقسيس احتوى على كم هائل من التوثيق بالاسماء والتواريخ.
لكن الأهم هو مقدمة رونو جيرار، فهو إذ يسير في ركب الكتاب الفرنسيين الذين تساءلوا عن سبب أخطاء فرنسا والغرب في التعامل مع الازمة السورية، يقول بصراحة لافتة: “ان سورية وايران ليستا عدوتينا، فهما لا تريدان قتل الفرنسيين، ولا الإساءة إلى مصالحنا الجغرافية والاقتصادية، وعليك حين تقاتل عدوا يريد قتلك، ان تعرف كيف تتفاهم مع كل الحلفاء المحتملين، حتى مع خصومك على مستوى الأفكار”.
هذا يذكّرنا باجتماع مجلس وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي في ربيع 2013 ، فحين كان وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس المعروف بعدائه لمحور المقاومة، يطالب نظراءه بتسليح المعارضة السورية، نظر اليه الوزير البلجيكي بشيء من السخرية وسأله: “اشرح لنا يا سيادة الوزير، كيف تريد مساعدة الجهاديين في سورية وأنت تقاتلهم في مالي؟”.
السؤال صدر قبل فترة في كتابين فرنسيين عن التعاون الفرنسي مع قطر، حين قيل كيف لفرنسا ان تتعاون مع قطر في مسائل تسليح المعارضة في ليبيا وسورية، بينما قطر تمول من يقاتل فرنسا في مالي… فتش عن المصالح لا الأخلاق طبعا.
ينتقد جيرار بقسوة إغلاق السفارة الفرنسية في سورية. ثم يروي قصة ذاك الارهابي التونسي الذي كان من المفترض أن يذهب للقتال مع ناشدي الحوريات في الجنة، لا الحريات على الارض، لكن تعقيدات ادارية منعت شبكة التهريب التركية من تسهيل تسلله، فذهب للقتال في مالي. ويتساءل الكاتب: “لو ان هذا الجهادي وصل الى ضواحي حلب، لكان اليوم حليفا للحكومة الفرنسية”، بينما في مالي فهو ارهابي تقاتله فرنسا.
وبجرأة اخرى يرى الكاتب الفرنسي ان التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا، الذي نفذه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي “جاء بناء على نصيحة من برنار هنري ليفي” (الكاتب اليهودي المؤيد لاسرائيل). ويقول: “ان حرب عام 2011 ضد القذافي ستبقى في التاريخ كأكبر خطأ استراتيجي ارتكبته الجمهورية الخامسة الفرنسية في السياسة الخارجية، فالقذافي لم يكن عدونا”.
يُذكِّر جيرار، حيث تنفع الذكرى، بان الأسد الذي حاربته فرنسا منذ عام 2011 هو نفسه الذي منحته وسام الشرف في العرض العسكري في خلال العيد الوطني عام 2008. وبالتالي فان “خطأ الغرب حيال الملف السوري، انما كان نتيجة لكوكتيل من غباء تاريخي ومانوية سياسية ورغبات زُيّنت كحقائق دبلوماسية wishful thinking». لا بأس اذاً ان يعود الكاتب بالذاكرة الى أن الرئيس الراحل حافظ الاسد إنما اصطدم مع الاسلاميين بسبب مشروعه العلماني لدولة مدنية. لنتذكر ان فرنسا دولة علمانية. لنخفض الصوت فمن تعقد معهم الصفقات يكفّرون العلمانيين..
واذ يقدم الكاتب مجموعة من النصائح إلى ساسة فرنسا، الذين أعمتهم مصالحهم الاقتصادية مع دول الخليج في الازمة السورية واقترابهم من اسرائيل ضد ايران، فانه يصل الى نتيجة مفادها: “اذا كنا قد أشركنا السعودية في قتال داعش، وسامحناها بالتالي عن تمويلها الهائل للجماعات الاسلامية، فعلينا ان نتعامل بالمثل مع سورية وايران، ذلك ان المناورات المعادية لقيمنا من قبل هاتين الدولتين لم تصل مطلقا الى المستوى الذي وصلت اليه الدول النفطية السنية”.
بالمختصر يدعو الكاتب الى اعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق، وإلى استعادة الخطوط معها. نصيحة قالها كثير من الكتاب والمفكرين الفرنسيين، وسمعتها الاجهزة الامنية التي تستمر في سعيها لتعزيز التعاون مع الامن السوري، وسمعها نواب زاروا دمشق أخيرا، لكن يبدو ان العقود التجارية الفرنسية الضخمة في الخليج، والمناخ المؤيد لاسرائيل في الحزب الاشتراكي الحاكم والمناهض لإيران، والتخبط بين التبعية لاميركا ومحاولة التفرد في الموقف، تجعل جميعها السياسة الفرنسية الحالية ليس حيال سورية فقط، انما حيال الشرق الاوسط بمجمله، في وضع مثير للشفقة. راهنت فرنسا على سقوط سريع للرئيس بشار الاسد. فلم يسقط. راهنت على دور كبير للائتلاف السوري المعارض، وكانت المبادِرة إلى فتح سفارة له، فانهار امامها. همَّشت معارضة علمانية غير منتمية إلى الاخوان المسلمين، مثل هيئة التنسيق، فوجدت ان روسيا واميركا عادتا لتفتحا الباب لهذه المعارضة. قررت دعم المسلحين بالسلاح، فاذا بـ 80 بالمئة من هذا السلاح يقع بين ايدي الارهابيين.
أما وقد صار الارهاب في عقر دار فرنسا، فهي عاجلا أم آجلا ستطرق أبواب الأسد… وأما اذا كانت تفعل كل هذا من اجل الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان والمساواة في سورية، فهي على حق، لكن كان عليها أن تبدأ في مكان آخر، أي في المكان الذي تعقد معه حاليا أكبر الصفقات المالية والتجارية…
نعم فرنسا أخطأت في التعامل مع الملف السوري، وضيعت على نفسها فرصة هائلة في ان تؤدي دور الوسيط منذ البداية. مرة جديدة يقرر الاميركيون تغيير الرياح، ومرة جديدة ستضطر إلى اللحاق بهم. وهي التي تخسر دائما.
سيريان تلغراف