خلال حرب تموز 2006, وضعت الجمهورية الاسلامية كل الامكانيات اللوجستية والمادية والبشرية بتصرف المقاومة في لبنان . حينها , كان سقف المواجهة هو منع هزيمة المقاومة مهما كلف الثمن , ولو شعرت المقاومة باي شكل من اشكال الاختلال او صعوبة الاستمرار في المواجهة لكانت مئات العشرات من المقاتلين الايرانيين تدخلت ومنعت الهزيمة , لكن المقاومة صمدت وواجهت وانتصرت .
ومنذ بداية الحرب على سوريا وقفت الجمهورية الاسلامية سنداً وعوناً للدولة السورية على كافة الصعد وفي كافة المجالات , فالمعركة ضد سوريا لا تستهدف سوريا كنظام بقدر ما تستهدفها كمنظومة ممانعة وكحلقة اساسية في ربط تلك السلسلة الممتدة من طهران الى غزة . ولطالما ايضاً صرحت الجمهورية الاسلامية اكثر من مرة خلال السنوات الاربع انها شريك في المواجهة القائمة وعنصر اساسي من عناصر الدعم والمساندة , لكنها لم تُصدر يوماً تصريحاً عالي السقف كالذي اصدره وزير الدفاع الايراني حسين دهقان والذي هدد فيه بارسال 600 الف جندي الى سوريا الى ما استمر الغرب واتباعه في المنطقة بارسال الارهابيين الى سوريا , فما وراء هذا التهديد وما هي الابعاد التي استوجبت رفع السقف لهذا الحد ؟
بالعودة الى احدث سوريا خلال السنتين الماضيتين , نرى ان معركة القصير شكلت نقطة التحول في الحرب , فقبل تحرير القصير بقليل كان الوضع صعباً جداً وكانت المجموعات الارهابية قد سيطرت على اجزاء كبيرة من الجغرافيا السورية واصبحت دمشق قاب قوسين او ادنى من السقوط . فجاءت رافعة تحرير القصير لتشكل منعطفاً في الحرب وقد تبعتها معركة القلمون وباقي الحزام الغربي لدمشق ليعطي الوحدات العسكرية السورية اريحية في المواجهة بعد حماية ظهرها غرباً لتبدأ بعدها عملية تحصين دمشق جنوباً ضمن الية تعاون وتنسيق بين حزب الله والجيش السوري .
لقد شكلت الاشهر التي تلت عملية تحرير قصير مساحة لتراكم الانجازات العسكرية التي اسقطت احلام الغرب واتباعهم الاقليميين باسقاط النظام في سوريا مما انعكس تغيراً لافتا للادارة الامريكية في مقاربتها للمشهد السوري المستجد . لكن الامريكي, على عادته في التفكير والتخطيط , كان يعمل على الايحاء بأن ادارته اقتنعت وسلمت بصعوبة اسقاط الاسد وشاعت مناخاً من التراجع والمناورة انسحب على كامل الموقف الغربي من اوروبا الى غير مكان من دول العالم باستثناء اعداء سوريا الاقليميين كتركيا والسعودية وقطر واسرائيل الذين لم يجاروا الامريكي في تراجعه واصروا على المواجهة الكيدية حتى الرمق الاخير .
هنا كان الامريكي يقيس الامور بميزان من ذهب , فهو يريد بقاء المنطقة مشتعلة لابتزاز ملوكها ومشيخاتها , ومن جهة اخرى يدرك حجم وتبعات نتائج الكباش العسكري مع ايران على ارض سورية , فكانت سمة الرمادية والتذبذب في التصريحات هي الطاغية الى ان اكتملت عناصر الخطط البديلة لداعش التي احرقت مراحلها في العراق وسوريا , فجاء الحديث عن ” معارضة معتدلة ” كبديل عن النصرة وداعش اللتان تشكلان عبئاً سياسياً وامنيا واخلاقياً على المجتمع الغربي . وكما اتخذت دمشق خيارحماية المدن وتحريرها بالكامل للحفاظ على منظومة الدولة واركان الحكم وانطلقت بعدها في الجغرافيا بتكتيك القضم البطيئ على غرار النموذج الجزائري في تسعينات القرن الماضي , كانت الحطة الامريكية تقتضي اولا انشاء مناطق عازلة في الجنوب والشمال وتدريب المقاتلين خلف حدود تلك المناطق في الدول المتاخمة للحدود ثم توسيع رقعة تلك المناطق المحمية الظهر والامداد عبر سياسة القضم الجغرافي وصولا الى دمشق القريبة نسبياً من الحدود الجنوبية واستعادة كامل حلب من جهة الشمال .
لكن دوائر التخطيط في منظومة الممانعة كشفت مبكراً ابعاد هذه الخطة , فكانت العملية الاستباقية في مثلت الجنوب لتقضي اولا على رغبة انشاء المنطقة العازلة جنوباً ثم باغتت الارهابيين شمالا في عملية اشبه بالمقص الذي قطع اوصال الجبهة الشمالية انطلاقاً من حلب ومروراً بريف اللاذقية ووصولاً الى القاملسي والحسكة ودير الزور . لكن الامريكي لم يقتنع بعد بفشل المخطط قبل ولادته , او بالاحرى اراد الاستمرار به طالما انه لن يخسر شيئا في ظل الدعم اللامتناهي من امراء النفط , وهو جُل ما يريده من كل هذه الحروب , مال الخلجان وامان ” اسرئيل ” . فكان الاجتماع الكبير لقادة الفكر والتخطيط وارباب الحرب في ادلب وكانت مخابرات منظومة الممانعة ترصد كل التحركات وتوجه ضربةً قاسمة لهم تصطاد العقول المؤسسة للمرحلة الثانية من المواجهة فتقطع الطريق على القدرات البشرية بعدما قطعت الطريق باستعادتها الجغرافيا.
ولاستكمال الجهد في ضرب المشروع , وعت جيداً منظومة الممانعة في طهران ودمشق والضاحية ان الامريكي سيستثمر بقايا داعش الفارين من العراق بالاضافة الى الالاف الذين دربهم اردوغان والملك الاردني ” كمعتدلين ” في تشكيل جيش حر ثان نواته النصرة وبقايا داعش بالاضافة الى تلك الالاف التي دربت واصبحت جاهزة , وكخطوة استباقية ايضاً , ارادت طهران عبد وزير خارجيتها ارسال رسالة حادة وبالغة المضمون السياسي بان طهران مستعدة لارسال مئات الالوف مقابل الالاف التي سيدخلها الامريكي , وهذا يعني ان طهران حاسمة في موضوع الانتصار في سوريا مهما كلف الامر , وهناك توقيت اخر لهذا التصريح له علاقة بالمفاوضات النووية الجارية , فايران لو فكرت بارسال مئات الالاف من جنودها الى سوريا او العراق فهذا يعني بابعاده الاستراتيجية خروجاً كاملاً للنفوذ الامريكي من المنطقة , وتوجداً عسكرياً كبيرا في سوريا على تخوم دولة الكيان الصهيوني يعني مسلسل رعب لا تستطيع ” تل ابيب ” هضمه او جرد التفكير فيه.
لذلك , فان هذا التهديد سيشكل رادع استباقي للامريكي واتباعه , مضافاً الى فشل المنطقة العازلة وخسارة الادمغة القيادية في ادلب , مما يعني ان المرحلة الثانية من المواجهة قد اُفشلت , والامر لا يحتاج الا لبعض الوقت كي تقتع واشنطن وتفكر بهدوء وتصرف النظر عن المرحلة الثانية للحرب على سوريا . ولعل من اهم تداعيات فشل تلك المرحلة انها ستعجل عملية التفاوض الجارية لان المكابرة بالنسبة لاوباما مضيعةٌ للوقت , الذي لم يعد يملك منه الكثير .
سيريان تلغراف