كنائس المشرق تذرف الدموع دماً في هـذه الأيام، وهي تعـيش الذكرى المئوية الأولى، لمذابح الأرمن والسريان والكلدان والأشوريين، حين استـشهد أكثر من مليونيْ مسيحي، غـلطتهم الوحيدة أنهم على دين المسيح معـلّم المحبة والغفران… واحتفالا بهذه الذكرى الأليمة ها هي وسائل الإعلام تتكـرّم وتخبرنا أن مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية ’داعش‘ قاموا مؤخراً بِالهجوم على 35 قرية اشورية في ريف الحسكة على ضفاف نهر الخابور وحرقوا بعض كنائسها واختطفوا العديد من رجالها وسبوا نسائها وفتياتها وهجّروا أهاليها بعد أن نحروا وذبحوا العديد منهم. وها هو سيناريو مذابح وسرقة وتهجير سريان الموصل ونينوى يتكرر كم حصل مع الإيزيديين في سنجار العراق…
وخوفا من الذبح والنحر، وحـفاظا على ايمانهم واعراضهم ووجودهم على الأرض التي عاشوا فيها وعشقوها منذ كان التاريخ، وأعطوها اسمها : سوريا… لجأ الكثيرون الى مناطق اكثر أمنا، مخلفين وراءهم املاكهم وكنائسهم وذكرياتهم… ومن المعلوم أن المطرانية الآشورية في الحسكة استقبلتْ أكثر من ثلاثة آلاف عائلة منكوبة.
هذه الأحداث حصلتْ يوم 26.2.2015 وكانتْ وسائل الإعلام قد كتبتْ قبلها بِ ايام معدودة أي في 22 الجاري، ان قوات عسكرية تركية توغّلتْ مسافة ثلاثين كيلومترا في أراضٍ سورية، تسيطر عليها الدولة الإسلامية داعش، ونقلتْ رفات ’سليمان شاه‘ جـدّ ومؤسس الدولة العثمانية، من مدفنه المجاور لِ مدينة حلب إلى موقع قريب من الحدود التركية… وقد كتب السيد فراس عزيز ديب، في جريدة الوطن السورية ما يلي :
“بينما كانت معاول أردوغان تنكش خلسةً وتحت جنح الظلام قبر جده ’سليمان شاه‘ بتنسيقٍ كاملٍ مع داعش ، ظناً منه أنه سيهرب من الجغرافيا إلى التاريخ، كانت مطارق داعش، وعلى مرأى الجميع، تحطِّم الحضارة والتاريخ، ظناً منها وممن يدعمها أنها الوسيلة الأجدى لمحو الجغرافيا.”
سؤال يفرض نفسه : ما هو ثمن سكوت الدولة الإسلامية داعش على هذه العملية وهذا الإختراق والتحّدي التركي ؟…
- يوم 22.2، توغّل الأتراك في أراض سورية تسيطر عليها دولة الخلافة داعش ولم تمانع أو تدافع عن سيادتها !…
- يوم 26.2، توغّلت داعش في 35 قرية آشورية واحرقتْ وقتلتْ وسبتْ في نفس الأراضي ولم يتحرك التركي !…
هذا التطابق الزمني يؤكد أن ليس هناك إختراق أو تحدّ تركي بل إتفاق بين حليفيْن صديقـيْن يعـيشان على التقية والباطنية…
الكل يذكر دبلوماسيي تركيا الذين وقعـوا في قبضة داعـش حين احتلّ الموصل وكيف عادوا الى وطنهم معـززين مكـرّمين، دون أي مقابل أو فدية، والكل يعرف موقف تركيا المعلن من الحرب على الإرهاب… لذا بوسعـنا التاكيد أن حلفاً غير مقدس قائمٌ بين الجاهلية الوهابية والطولونية العثمانية، أما عرّاب هذا التحالف فهو الوريث الشرعي للذين أبادوا الهنود الحمر…
إنه حلف غير مقدس قائم بين خبراء في فنون النحـر والحرق والتدمير وفقء عـيون المسيح والعـذراء ونهب أوابد وخيرات الوطن لبيعها لحلفائهم جـزّاري بني عثمان وحفيدهم السيد أردوغان، سيء الذكر، الذي تأبّط شرا،ً وأخذ يجترّ جرائم أجداده ويعمل على ذبح من تبقّى من أبناء شهداء ’سيْفو‘الأشوريين والسريان والأرمن في منطقة الحسكة والخابور وتل هرمز… كما فعـل مجرمو مذابح سنة 1915… وعـرّاب كل المآسي، منذ خمسينيات القرن الماضي، كان ولا يزال هو نفسه الذي قرّر في شهر آب سنة 2014، محاربة الدولة الإسلامية داعـش في العـراق ثم سوريا، على إثر فيلم ذبح جون فولي…
تشكلت قوات التحالف من اربعـين دولة، بقيادة الولايات المتحدة، وحسب احد المواقع قامت بِأكثر من 5500 غارة على مراكز دولة الخلافة داعـش في سوريا والعـراق خلال الأشهرالشهر السبعة الأخيرة… لكن نتائج هذه الغارات لا تزال في عالم الغيب… بعـض وسائل الإعلام تؤكد رؤية طائرات مجهولة الهوية تلقي بالصناديق على اراضٍ تسيطر عليها داعـش… من المؤكد أن الصناديق لم تكن تحمل العاب أطفال أوهدايا بابا نويل !… لذا يتساءل الكثيرون :
- ألا يعني هذا أن قوات التحالف تقدّم لِ العالم مسرحية المضحك المبكي؟…
يوم 28.2.2015، شاهد العالم عسس الخلافة الداعشية وهم يقومون بِ تحطيم التماثيل الآشورية في متحف الموصل، بعد أن سبق وشاهد احتلال الكنائس والأديرة وحرق كتبها ومخطوطاتها الثمينة وتأثر المجتمع الدولي واحتجّ لهذا العمل البربري، وهذا المجتمع الدولي المنافق لم يرَ او يشهد اختطاف 220 مسيحي آشوري وذبح العديد منهم… لكن الأمانة تـفرض علينا أن نتذكر أن الدواعش ـ حين يذبحون ضحيتهم ـ لا ينسوْن الصراخ : “الله أكبر” وكأن الله هو من يأمرهم بِ الذبح وهذا التكبير يتكرّر حين يفجّـرون مزاراً أو يحرقون كنيسة أو يستولون على ممتلكات الغير وكأن الله شريك أفعالهم!..
- ألا يعني هذا أن قوات التحالف تقدّم لِ العالم مسرحية المضحك المبكي؟…
ليْلةَ 20.3.2003 قامتْ أميركا وحليفتها بريطانيا بالهجوم على بلاد الرافدين، بحجة حيازة أسلحة دمار شامل. وبعد أقل من عشرين يوم، سقطتْ عاصمة الرشيد… ودخلتْ قوات الإحتلال العنصرية وفتحتْ الأبواب للنهب والسلب والتدمير، واستغلّ أحفاد من سباهم نبوخذ نصر الفوضى ونهبوا المتاحف واستولوا على كل ما يتعلق بِسبي بابل… أحتلال العراق تمّ خلال أيام
معدودة من قبل دولتين فقط… لماذا تحتاج اميركا وحلف الاربعين دولة كل هذه الأشهر لِ تدمير داعش ؟…
- ألا يعني هذا أن قوات التحالف تقدّم لِ العالم مسرحية المضحك المبكي؟…
قبل ايام معـدودة، زار دمشق وقابل الرئيس بشار الأسد وفـد فرنسي مؤلف من نواب وشيوخ، وعلى اثر الزيارة قدّم أحدهم تقريرا عن انطباعاته الى المسؤولين في بلده… وفي إحدى فقراته أكد أن بعض أسلحة مجرمي داعش هي فرنسية الصنع سبق وأرسلتْها الى ” الثوارالمعتدلين” الذين باعوها أو خسروها…
- ألا يعني هذا أن قوات التحالف تقدّم لِ العالم مسرحية المضحك المبكي؟…
صباح 3.3.2015، نشر موقع التيار اللبناني أن مطران السريان الكاثوليك في الحسكة يعقوب بهنام هندو كشف لوكالة فيدس الفاتيكانية : ” اثناء هجوم داعـش على القرى الأشورية، فوق منطقة الخابور، حلقتْ الطائرات الأميركية عـدة مرات فوقهم، دون أن تشاهد حجافل البرابرة المدججة بالسلاح لأنها مصابة بالعمى. وأضاف : لدينا شعور بأننا تُركنا بين أيدي داعش.”
- ألا يعني هذا أن قوات التحالف تقدّم لِ العالم مسرحية المضحك المبكي؟…
كافة وسائل الإعلام الغـربية والشرقية بشّـرتْ العالم، يوم 18.2.2015، أن ” زعيمة العالم الحـر والحـرية ” قد وقّعـتْ مع حكومة وريث بني عثمان عقداً لِ تدريب ” المحاربين والجهاديين والمرتزقة والمستوردين ” الذين يسعـون لإسقاط الحكم في سوريا، الدولة ذات السياد ة والعضو المؤسس للجامعة العربية والأمم المتحدة. ولِ الامانة الصحافية، يتوجّب علينا ذكر الشرط الذي فرضته على من يتـقّـدم للتدريب أن يكون ” معـتـدلاً محباً لسوريا وشعبها ويستعمل رصاصا اميركيا فقط.”
- ألا يعني هذا أن قوات التحالف تقدّم لِ العالم مسرحية المضحك المبكي؟…
صدق من قال : ’داعـش والنصرة وإخوانها وأخواتها وُلِدتْ من رحم الغزوة الأميركية للمشـرق، ومخابراتها كانت الداية.‘
أن ما حدث مؤخرا للقرى المسيحية، على ضفاف نهر الخابور، سبق وحدث طوال السنوات الأربعة الأخيرة في دير الزور والرقة والقصير وربلة وحمص وصدد والنبك ويبرود ومعـلولا وصيدنايا وعـربين وكسب وغـيرها… حيث لم تبقَ مدينة أو قرية في سوريا لم تصل الى بيوت عـبادتها الأيادي المجـرمة مدنّسةً مقدّساتها ومحـرّماتها… كل هذه الجـرائم النكراء تحدث على مرأى ومسمع العالم المتباكي على حقوق الإنسان… وهذا الذي نراه في سوريا، يحـدث مع مسيحيي العـراق والسودان ومصر وليبيا وأفغانستان وباكستان وغيرها من الدول… وكلها بمساعدة السيد أردوغان وحدوده المشرعة لِ ’المعتدلين.‘
- هل المطلوب ان نموت ونُذبح صامتين صاغرين ؟…
- هل المطلوب أن ننكر المسيح ونعتنق الإسلام ؟…
- هل المطلوب أن نهجر أرض ابائنا وأجدادنا ؟…
إذا قمنا بتحليل ما حدث لنا كمسيحيين، عـبر العـصور وما نلمسه كل يوم، في مشرقنا، نجد أن هناك قوى مثلثة الأضلاع، تسعى لإستئصال ممنهج لوجـود المسيحية المشرقية، من سريان وأرمن وآشوريين وموارنة واورثودوكس وأقـباط، هدفها اقـتلاع اسم المسيح وامه العـذراء المقدسة من هذه الأرض المقدسة ومن القـرآن الكريم، إن استطاعت الى ذلك سبيلا…
واليوم إذ يحيي الأرمن والسريان والآشوريون ذكرى النكبة الكبرى، نكبة مجازر1915، نشعر جميعا أن عيون دولة داعش مسلطة على لبنان ومسيحييه، الذين ينعمون بِ بعض الأمان والإستقرار الهش… وهذا يعـيدنا الى القرن الماضي حيث جاء في بعض الكتب والتقارير الدولية حول لقاء ضمّ أنور باشا، وزير الحرب العثماني وجمال باشا السفاح والحاكم العرفي في المنطقة، قال أحدهم للآخر : ” إن الحكومة لن تستعـيد كرامتها إلاّ بِ استئصال الأرمن واللبنانيين.” وأضاف : لقد قـضينا على الأرمن بالسيف، أما اللبنانيين فسنقضي عليهم بِ الجوع.” وهذا ما حصل في جبل لبنان: مجزرة صامتة، حصار أمني ومنع الإمدادات الغذائية سبّبتْ مجاعة انهكتْ الجبل وسكانه…
الخوف كل الخوف أن يتحلّل لبنان وينفرط عقده التوافقي الفريد… في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كان لبنان مرجع الدول العـربية ومستشارها المفضّل في حلّ الخلافات، وحكَمَها العاقل في فضّ المنازعات وتدوير الزوايا بينها، وكان الملح الحافظ والخميرة الجامعة لِ دول المشرق وأبنائه من مسيحيين ومسلمين… وحين فقد لبنان هذا الدور، فقدتْ بلادنا المشرقية بعض روحها وحيويتها، لأن أجنحة المشرق تكسّرت أمام المصالح الضيقة وتحت الضغوط الظلامية والغريبة.
نأمل أن يعـود كافة أمراء الحروب وزعـماء الطائفية وحكماء البلد الأجمل، أن يعـود الجميع الى رشدهم، قبل فوات الزمان، كي لا يُنعت السيد مشيل سليمان بِ آخر رئيس ماروني، كما صرّح أحد الذين يصومون ويصلون على هذه النية !…
ولهذا أيضا، علينا أن نتحرّى أهداف القوى، مثلثة الأضلاع، التى تسعى لتفريغ المشرق من مسيحييه :
أولى هذه القوى الظلامية هي تلك المجموعة العنصرية التي أعلنت في أواخرسنة 2014 “يهودية الدولة” ما يعني أن كل من لا يدين باليهودية هو مواطن درجة ثانية… وهي التي تحارب الوجود المسيحي في بلادنا، وتسعى مع قوى أخرى لإقتلاعـه كي لا يعيّرها الآخرون بِ تعايش المسيحي والمسلم بِ ودّ واحترام وتفاهم، في الدول المجاورة لها…
ومع الأسف الشديد، نلمس أن البعض من مواطنينا الآخرين، الذين نعيش معهم تحت سماء واحدة ونأكل ثمار أرض واحدة، يسيرون في ركاب أحـفاد بني خيبر، وينفّذون مخـططتهم متجاهلين أن بلادنا لا تطيـر إلاّ بجـناحيها المسلم والمسيحي… هل يكمن السبب وينسحب حديث الرسول الذي روته عائشة : ” لا يترك بجزيرة العرب دينان” على المشرق ايضا ؟..
أما الضلع الثالث الذي يسعى لتفريغ المشرق من مسيحييه فهو غربٌ فَـقَـدَ روحه سعيا وراء مصالحه المادية لكسب ودّ قوى الصهيونية التي ترى في مسيحيي المشرق العدو الذي يقارعه الثقافة والحضارة ويسعى لِ توحـيد الكلمة حول تعايش وطني على أرض المؤمنين بان ” الدين لله والوطن للجميع.” وما تهجير المسيحيين، وهم لحمة النسيج المشرقي، إلاّ أولى مراحل السيطرة الغربية على تاريخ العالم وروحه، وغياب الملح والخـميرة عن المشرق يفسد المجـتمع، وتصبح الجـماعة عـرضة للتـتـفكّـك، فَ يسهل على الطامعين التهام البلاد والعباد…
الباحث والمؤرخ غسان الشامي سأل رئيس أبرشية الموصل وكردستان للسريان الأرثوذكس المطران مار نيقوديموس داود متي شرف، لماذاالمسيحي عندما يهاجَم، يضبّ أغـراضه ويهاجـر، الا يجب أن يقاتل ويدافع عن أرضه ؟… لماذا التكفيري والإرهابي الشيشاني والسعودي والتركي الخ… يهاجم ويقاتل على أرض ليست أرضه، وابناء الأرض يهربون ؟…
فجاء جواب المطران : نحن لسنا جبناء، ولكن الله أعطانا الحكمة، من تريدنا أن نحارب ؟… انتم عندما كنتم تـنقـلون احداث غزة، كان قلبنا يدمي على شعبها الذي يُقتل كلّ يوم، لكن شعـب غـزة عنده صواريخ، وهو باضعـف الحالات كان يدافع عن نفسه بسلاح يملكه… نحن لا نملك السكين أو أي أنواع السلاح. يأتيك التكـفيـري الرافض للآخر، ويقول أنه يسعى أن يموت حتى يصعد للحوريات والغلمان المخلدين الذين لا ينزفـون دما… نحن لدينا القلم والورقة ونعيش في ظل القانون. نحن تربينا وترعرعنا دينيا واجتماعيا وعائليا على ثقافة الحياة والمحبة والسلام وليس على ثقافة الدم والقتل والسلب والدمار… هذه هي ثقافـتنا أن نكتب ونعلّم مَن حولنا كما علمْنا العرب عندما جاؤا فاتحين. رجاء افهمونا نحن نمثل الإنسانية والوطنية. وأرضنا التي نموت من أجلها، تقيأتـنا… داعش ذبحـتـنا وسلبتْـنا وهتكتْ أعراضنا وهجّرتْنا ولا من يسمع ولا من يرى!…
أختم أسطري راجيا من إخوتي في الوطن والإنسانية التأمل بهذا النداء : حافظوا على المسيحي المشرقي ولا تساعدوا أعداء مشرقنا على تهجيرنا من أرض أجدادنا كي لا تصبح بلادنا عنصرية بلون ديني واحد، كما يحلم أن يراها عدونا اللئيمَ!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سيريان تلغراف | فؤاد عزيز قسيس
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)