Site icon سيريان تلغراف

مواويل عشق محمد أبو زيد .. جدلية الذات و الوطن .. بقلم ممدوح مكرم

” مش فيلسوف فى الشعر / ولا إحساسى / كان يوم منطقى / أنا من جنون الحرف / و العزق الحنون ” ( محمد أبو زيد)

ليلة معجونة بالشعر ندندن فيها بمواويل عشق ٍ مع الشاعر محمد أبو زيد الأسيوطى ، كما يحب أن ينسّب نفسه ، و شاعرنا صوت متميز فى شعر العامية ، بداية الإستماع إليه كانت أيام ندوات و أمسيات قصر ثقافة أحمد بهاء الدين ، شعره و إلقائه الممسرح دائماً ما يأخذك إلى عالم شاعرى جميل ، مممزوج بالأسى و الألم ومبطن بتلك السخرية أحياناً ، لنقد الذات و الموضوع على السواء .

ديوان مواويل العشق الذى بين يدى و آياديكم ، يقع فى خمسٍ وتسعين صفحة (95) من القطع الصغير ، من إصدرات الهيئة العامة لقصور الثقافة ( إقليم وسط الصعيد ، فرع ثقافة أسيوط ) عام 2014 م

يضم الديوان 37 قصيدة عامية ، هناك قصائد قصيرة (بضعة اسطر)..قصيدة ” اشمعنى) ص 25 .. ( خمسة أسطر) وقصيدة ” أنا التايه” ( سبعة أسطر) ص 84 ، أما باقى القصائد فهى ذات طول متوسط أو طويلة ( أكثر من سبعة أسطر ؛ بعضها قد يصل إلى ثلاثين سطراً شعرياً، وذلك إن دل ،فإنه يدل على تكثيف شديد للغة ، و التعامل معها بإقتصاد إن جاز التعبير، وهذا ما شبعها بإحساسٍ عال ، وجعلها غنائية ، وهى تتناسب مع الذات الشاعرة الممزقة بين ذاتها وذات الوطن الذى يتزيا بزى أنثى يخاطبه الشاعر فى أغلب قصائده – إن لم يكن كلها- كموضوع خارجى ، يتفاعل معه الشاعر بشكل جدلى ، يتوحد وينفصل ، يحب و يكره ، يشك و يتيقن ، ييئس و يأمل ، وهو فى كل ذلك يبحث عن ذاته فى الوطن الذى يشعره بالإغتراب تارة و بالقهر تارة أخرى ، و بالدفء تارة ثالثة ، وفى ذات الوقت يبحث عن الوطن فى ذاته ، و يستدعيه كما المخيال التقليدى للشعراء-أولبعضهم- وطنُ أنثوى أو بملامح أنثوية ، رغم أن إسم مصر تراثياً ليس مذكراً ، فمصر هو حفيد حام بن نوح وفقاً للروايات التوراتية ( مصر مش هى أمى ، مصر هى أبويا)!!

وندلل على كلامنا ببعض الأمثلة

يقول فى قصيدة ” مسجون بحرفك” ص: 45

كل يوم

اكتب ف وصفك

ميت نشيد

و أبدر قصايدك

فوق سطور النفس

غنوة شوق

ترتد فيا الروح

و أروح ..حاضن شعاع الشمس

وفى قلب ..قلب اليأس

تانى يتولد

أبو زيد جديد

فالسجن هو تعبير عن الضيق ، و افتقاد الأحبة ، ولكنه هنا سجن جميل ، سجن شاعرى ، يغازل شاعرنا الوطن ( فيكون سجين حرفه) ومن هذا اليأس يولد الشاعر البطل أو البطل الشاعر أبوزيد ، وهذه علاقة تماهى بين ذات الشاعر وذات بطل السيرة الشعبية الشهير أبو زيد الهلالى ، والذى يحمل الشاعر ذات إسمه ، ويكون الثالثوث ( الوطن ، الشاعر ، البطل المنتظر للخلاص؛ الذى يتوحد فى الشاعر ، و يتوحد الشاعر به)..وهو تعبير عن الأمل القادم فى غدٍ أفضل .

ويتأكد هذا الكلام فى المقطع الأخير من قصيدته” شمس الروح” ص43 يقول :

……..

أو بطل بيموت شهيد

كل حرف تنطقيه

تكتبيه ..تلقى فيه

اسمى بالخط العريض

أبو زيد

ملك القصيد

وقصيدة ” حب أعمى ” ص 54-63 ) وهى تقريباً أطول قصائد الديوان ، تتضح فيها أكثر تلك العلاقة المتوترة بين ذات الشاعر و موضوعها الوطن ، وحدة وصراع أضداد ، تنتج هذه الحركة الداخلية المشبعة بهذا الإحساس الذى يصل لدرجة النزف؛ فهو عنون القصيدة ” حب أعمى” واستخدم مفردات حادة الإحساس تتناسب مع حالة الشاعر عندما كتب القصيدة .

وتتوتر علاقة الشاعر بذاته ، فى قصيدة ” كيعان الخوف” ص 86،87   حيث يصبح عاجزاً ولا أدرياً، بسبب موضوعه الوطن ، فيقول فى آخر القصيدة

…….

ومش عارف

ومش قادر أكون شاعر

ومش شاعر

وفى قصيدته ” مفيش فايدة” ص 80 يقول :

بتعمل كل شيئ ببيكيد

لا عارف أكون

فى يوم هية

ولا هية بقت أبو زيد

…….

أبو زيد ( ذات الشاعر بشكل صريح : ذكرت فى خمسة مواضع بالديوان) .. قصيدة :شمس الروح، مسجون بحرفك ، سابع أرض ، مفيش فايدة ، مش فيلسوف ) ص 43 ، 45 ، 53 ،80 ، 90 ) على التوالى ..

وفى قصيدة” غفير نظام ” أشار لذاته مستدعياً مهنته الأصلية ص 68 : المحاماة.. يقول :

أنا أصلاً ماليش فى الشعر

منه قرفت

أما كان ع المحاماة

هبطلها بلا نيلة

و أنا مفلس مفيش و لا قرش

من الليلة

……..

كما أن فى كل الديوان نجد ذات الشاعر هى المهيمنة، هى البطلة ( لأنه الشاعر البطل، أو الباطل الشاعر) الذى يعشق الوطن لدرجة التوحد ، من هنا كانت تلك المواويل لعشق الوطن الجارح و المجروح، الجلاد و الضحية فى ذات الوقت ، إنها وحدة جدلية تضم الوطن ذاته بتناقضاته ، و أخرى بين الشاعر و ذاته ايضاً بكل تناقضاتها، ومن ذات الشاعر و الوطن تتكون وحدة جدلية ثالثة هى التى أعطت تلك الحركة للديوان بوصفه مجموعة مواويل فى عشق الوطن ، تتوزع عبر القصائد ، وكل قصيدة تحتوى على حركتها الداخلية ، ومن هنا أتى الديوان حاداً فى تعابيره ، مملوء بهذا الإحساس و الإنفعال لدرجة تؤدى إلى الوقوع فى فخ المباشرة و الغنائية غير المستحسنة فى بعض القصائد ، وحتى بعض الأسطر!!مثال ذلك قصيدة ” سابع أرض” ص 50-53 )وقصيدة ” غفير نظام ” ص 66-70 وهى قصيدة تمثل سخرية جميلة رغم مباشرتها. ولهذا آثرنا أن نعنوّن قراءتنا ” بجدلية الذات الوطن” لكل ما سقناه من أطروحات ، ومحاولة تحليلها عبر سياق الديوان فى عمومه ، و سياق القصائد بعناوينها ، و دلالات العناوين ، و علاقاتها بالمفردات و التراكيب ومن ثم العلاقة بعنوان الديوان ، وهذا ما نبحثه الآن .

العنوان / العناوين و الدلالات

عندما نقرأ أى ديوان شعرى، للكشف عن مكنونه ، بديهياً يكون العنوان الرئيسى للديوان من أهم المفاتيح للفهم و الغوص فى العمل ، وربطه بالعناوين الفرعية ، و ظلاله و ما يقترب منه داخل الديوان ، أحياناً يكون عنوان الديوان ، هو عنوان إحدى القصائد ، و أحياناً أخرى يكون عنواناً دالا على المجمل ، أى لا يشترط أن يكون العنوان ، عنوان قصيدة ، و العنوان / العناوين لا تختار إعتباطاً ولا عشوائياً هى فعل مقصود من الشاعر ، لأنها هى الشفرة التى تربطه بالمتلقى .

شاعرنا أختار لديوانه ، ‘ عنوان إحدى قصائده فى الداخل وهى ” مواويل العشق” ص 13 رقم 5 .. و المواويل هى فن من الفنون الشعبية ، الغناء الشعبى الذى يعبر عن الذات الجماعية ، و ما تشعر به ، ولها طريقة فى الأداء و البناء على السواء .

وعنوان الديوان هو غنائى ، ارتبطت المواويل / الأغانى بعشق الوطن ؛ فى علاقته بالذات كما فصلناه سابقاً، وارتبط العنوان الرئيسى بعناوين القصائد بشكل مباشر مثل ” غنوة الإحساس” ص 11 ( العلاقة بين مفردة غنوة ، ومفردة المواويل) وبشكل غير مباشر من خلال ظلال كلمة العشق فى باقى عناوين الديوان ، مثل : ” تروايح العشق ، أدمنت صوتها ، شمس الروح ، حب أعمى ، حروف من شوق ” وجاءت العلاقة بين مضمون العنوان الرئيسى و أفرعه فى باقى القصائد ، العنوان غنائى ( مواويل العشق) وجاءت العناوين غنائية ، قصيرة ، فى الأعم تكون العنوان ، من كلمتين ، أو كلمة ، وبدا ذلك من أول قصيدة فى الديوان ” صباح الفل” ص 9 إلى آخر قصيدة ” أنا معتكف” ص 93 كلها عناوين غنائية تتناسب مع الديوان ومحتواه ، ودلالالته ، وهذا يرجع كما قلنا لهذه العلاقات الجدلية بين الشاعر و ذاته ، وبين ذات الشاعر والوطن ، وكل منهما أيضاً ينقسم داخلياً فى علاقات تضاد ، هى التى أدت إلى تلك الحركة الخارجية و الداخلية ، وأنتجت الإنفعالات ، ومن ثم أرتبطت تلك الإنفعالات بالدلالات التى أشرنا إليها فى السابق ، وهو ما جعل القصائد تأخد هذا الإيقاع اللاهث فى أحيان كثيرة ، و تلك الموسيقى المصنوعة من المفردات ، وهو إحساس عال باللغة وهندستها من قبل الشاعر ، بما يتناسب مع حالته الشعورية ، وإشباع إحساسه الملتهب .

البناء العام للديوان ..و للقصائد

وُفق الشاعر فى أن تكون قصيدة الديوان ( المفتتح) بعنوان ” صباح الفل” ص 9 وهو ما يشى بحمبمية بين الشاعر و المتلقى ، فكأن الشاعر يخاطب المتلق، و من ثم الحضور ، بإلقاء التحية ” صباح الفل ” على بساطتها و تدوال إستخدامها بيننا ، المتلقى هنا فى الخارج ، وداخل القصيدة ، يخاطب حبيبته / حبيبه الوطن ، ومن ثم تمازج المتلقى ، مع الوطن الأنثوى ، مع الشاعر ، فى هذه التحية الإستهلالية .

و تستمر الدفقة الشعورية فى كل القصائد ، متوترة و صاعدة ، حتى ينتهى الديوان بثلاثة قصائد متقاربة فى عناوينها، تمثل قمة الصعود الدرامى ، و المأساة بالنسبة للشاعر، التى توزعت على كافة القصائد ، هذه القصائد هى :

ثم تتوج الماساة بإعتكاف الشاعر ، و إعتصامه بالحزن ، حتى ترضى عنه معشوقته/ الوطن كما ذكرنا .

أنا معتكف فى الصمت

ومخاصم حروف الشعر

مش هكتب

مجرد حرف ولا نقطة

فى ليل البعد

أنا معتصم

فى الحزن

لحد ما تفتحيلى الحضن

……….

ولذلك لاحظنا هذا الترابط السياقى بين العناوين بشكل تتابعى ، وهناك ترابط سياقى بين القصائد ، حيث يفسر بعضها بعضاً ، كتنويع على الحالة ، وكتنويع على العلاقة بين الشاعر وذاته ، و ذات الشاعر وموضوعه ، هذا الوطن المؤنثن / الأنثى الوطن .

وهذه هى القيمة الحقيقىة لجمالية البناء ، يضاف لها التخاطب بين الذات ( عبر ضمير الأنا= ضمير المتكلم / ذات الشاعر) وبين ضمير المخاطب ( الأتثى) مثل قصيدته” قاموس الحزن” ص36 -389 ، وفى بناء كل معظم القصائد ، إن لم يكن كلها نجد ذلك التكنيك فى البناء، وهو متناسب مع حالة التوتر بين ذات الشاعر و موضوعه .ومن هنا نتوقف على بعض خصائص تجربة الشاعر فى هذا الديوان .

يقول:

اضحك اضحك

قول لنفسك ها

هااااااااااا حمرا

وهى مفرادات دراجة يومية ، ولمفردة ” حمرا” دلالاتها الواضحة فى الإستهجان، و يستخدمها الشباب بكثرة فى خطابهم الساخر الناقد للأوضاع

ص 17

لو لاقيتنى / فى يوم مشنوق / على باب الشوق/ عينى ف الأرض / وقلبى بحبل العشق/ متعلق فى السما فوق!

قصيدة قوليلى مين ص 74 -76 .. استدعى: سعد زغلول ، إبليس ، قيس بن الملوح، نزار، كاظم الساهر، وردة ، حليم ، سومة( أم كلثوم) ، آمال ماهر ، غادة رجب ، فسعد زغلول يعبر عن الثورة( بغض النظر عن موقفى منه) و إبليس : يعبر عن الرفض و التمرد وعدم الخضوع ( نستدعى مباشرة قصيدة أمل دنقل الشهيرة ” كلمات سبارتكوس الأخيرة” ) و التى يبدأها ب : المجد للشيطان معبود الرياح …../

وقيس و نزار شاعران ، و وكاظم ووردة و حليم و سومة وغادة رجب مطربون أو مغنون، وذلك بالمناسبة ظل لعنوان الديوان ، ويؤكد ويقوى ما قلناه عن الغنائية لدى الشاعر ، فبإستثناء سعد و إبليس، بقية الشخصيات ( شاعران) و مغنون..و الشعر و الغناء متدخلان و متمازجان ، بل و متردافان ، فالغناء شعر ، و الشعر غناء .وفى إستدعائه الشخصيات تلك ، يخاطب المحبوبة ” قوليلى مين ” من من هؤلاء تحبين ؟؟

وفى قصيدة ” سجين الحلم ” ص 83 إستدعاء شخصيات : صلاح الدين ، و عنتر ، و رامبو ، و استدعى سومة وحليم مرة أخرى فى قصيدة ” مش فيلسوف” ص 89 وفى ذات القصيدة أستدعى الحسين و السيدة كأماكن و كشخوص لها قداستها ، وفى البنية العميقة فى هذا المقطع تطفو أغنية عبد المطلب الشهيرة” ساكن فى حى السيدة ” يقول

لما واعداتينى نزور السيدة / فاكرة الحسين و الضحكة / مقسومة/ ما بين الدبليين ص 89 .

أخيراً ملاحظات عامة

ص 57 يقول

قوم صب تانى / من دموعك / دوق ومز/ اهضم الجرح اللى كلته/ بين ضلوعك إستلذ.

ص 9 : قصيدة صباح الفل

يا فصلى اللى ربيعه حل / يا شهد عسل فى ريقى / لما شوقى يبتدى يغلى

ص 23 شربت الحزن فى قزايز من الصبار / تكوينى بنار و بملح /….

ص 26 نرسم من ألماظ الكفوف

و لا ندرى لماذا اصر الشاعر على إستخدام مفردة القطار الفصحى ، بدلا من القطر( الأطر) ص51 ..مما خلق عدم ارتياح لإيقاع الكلمة وسياقه

يوم فى ( قطار) الحزن مسافر ،فلو نطقنا مفدرة قطار بالفصحى ، لحدث نشاز و كسر واضح ، المفردة العامية متماشية مع سياق الإيقاع .

إسراف الشاعر فى إستخدام مفردات وحتى تركيب فصحى ، هو السبب وراء بعض النشاز و الإيقاع المكسور بعض الشيئ .

بهذا نكون قد طوفنا بعض الشيئ ، و غنينا مع محمد أبو زيد مواويل عشقه للوطن.

سيريان تلغراف | ممدوح مكرم

(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)

Exit mobile version