خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة من نور والشياطين من نار، فكان التنافس والصراع بينهما على عبادة الله والفوز بمرضاته وجنته، لا على الخلاف والاختلاف بينهما. وتغيرت أدوات ومحددات هذا الصراع من العبادة إلى السيطرة والسيادة والإغواء عندما خلق سبحانه وتعالى سيدنا آدم أبو البشر، ليصبح البشر هم وقود هذا الصراع وأدواته ومحدداته وأطرافه في الوقت نفسه.
وإذا نظرنا إلى التاريخ الذي وصلنا عن تطور الحضارات التي تعاقبت على حكم الأرض فإننا نجد أمثلة كثيرة جداً على إدارة هذا الصراع عبر البشر ولمصلحة بعض البشر من خلال البشر أنفسهم، عبر حروب الإبادة والقتل الجماعي والتهجير المستند على استغلال بعضهم البعض كما في حالات الإقصاء الاجتماعي وانتهاكات حقوق الإنسان والفقر المدقع وغيرها.
وقد استمرت هذه الأفعال الشيطانية إلى يومنا هذا مع تبدل الأساليب والمظاهر المتبعة في إدارة هذه الصراعات، فكانت التنمية بمفاهيمها المتنوعة والمتطورة خلال القرن الماضي وبدايات القرن الحالي – على سبيل المثال- أحد الأدوات الرئيسة لإدارة هذا الصراع وتوجيهه، انطلاقاً من تغيير المفهوم بما يخدم السيطرة والتحكم بالأمم الأخرى والدول الأقل قوة في ميادين التنافس السيطرة على العالم، وصولاً إلى استخدام البشر أنفسهم لتدمير ما يمتلكونه من ثروات وقيم استجابة لمتطلبات هذه الدول في تحقيق التنمية وفقاً للمفهوم الدولي الذي يتم التسويق له.
فقد تطور مفهوم التنمية نظرياً من المفهوم المرتكز على تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي إلى توسعة كافة الخيارات أمام البشر من أجل مستقبل أفضل، لكن في الميادين العملية فقد اقتصر المفهوم الإجرائي له في بادئ الأمر على تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة نصيب الفرد في الناتج المحلي والدخل القومي عبر الاعتماد على التصنيع ثم التوريد وبعدها الزراعة وتحديد النسل في إشارة للنواحي الاجتماعية ثم التوجه نحو النتائج التي تحققها هذه العملية من خلال العناية بالبشر أكثر مما كانت عليه نسبياً في السابق، ثم الاهتمام بالأسعار وتعدد الخيارات المتحاة أمام البشر في ضوء تعدد وتنوع المصطلحات المعنية بالتنمية من تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية وبشرية وانسانية وثقافية وسكانية ورقمية وغيرها من المصطلحات والمفاهيم الكثيرة..
وقد استثمرت الدول المهيمنة على المجتمع الدولي هذا التطور بشكل فعال في إبادة وقتل وتهجير البشر، حتى أصبحنا نتوقع بين ليلة وضحاها ظهور مصطلح جديد يُعنى بالتنمية الدموية أو بتنمية العنف والقتل والإبادة، أو بالتنمية المستندة على أساس المذاهب والطوائف والأقليات خدمة لأهداف الدول المستبدة والمتحمة في العالم، إذ تشير وقائع التاريخ الحديث إلى أنه ومنذ سقوط جدار برلين اندلع ما يقارب الثلاثين صراعاً أو عاتداءً مسلحاً امتداداً من يوغسلافياً وصولاً إلى دول شرق المتوسط بما تشهده هذه الأيام من قتل وتدمير، وتشير هذه الوقائع إلى ما هو أفظع من هذا بكثير عند العودة إلى ما قبل هذا التاريخ من القرن نفسه، وجميع هذه الحوادث كانت موظفة تحت الستار الوهمي للتنمية من أجل البشر.
ولعل المفارقة الأكثر غرابة واستهجاناً في الاستخفاف بعقول البشر تحت ستار التنمية هو أن التنمية التي يسعى العالم المثالي لتطبيقها تقوم على توسعة خيارات البشر من أجل مستقبل أفضل وترتكز على الإهتمام بالبشر وتنميتهم من خلال البشر ولأجل البشر، وليس تطوير قدرات البشر من أجل قتل البشر من خلال البشر.
إن ما شهدته البشرية ولا تزال تشهده عموماً أو ما وصل إلينا عبر التاريخ المدون يشير إلى تميز الحياة الدولية على وجه الأرض بالظلم والقتل والإبادة في سبيل السيطرة والتفوق، وتشير أيضاً إلى استغلال الأخلاق والمثاليات والتنمية من أجل تحقيق هذا الهدف، وما يحدث في منطقتنا العربية في هذه الأيام عموماً، وفي سورية ومصر واليمن وليبيا وتونس والعراق ولبنان على وجه الخصوص ليس إلا آداة جديدة في التلاعب بالبشر ولكن بشكل أكثر خصوصية من ذي قبل، فالهدف هذه المرة هم القوميون العرب ومن قد يساندهم في استقلال إراداتهم وحياتهم، وأيضاً مسلموا الشام ومصر لما يشكلونه من حاضن حقيقي وسليم للعروبة ومتطلبات استدامة سيادتها.
سيريان تلغراف | د. يحيى محمد ركاج
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)