ينظر العديد من الفلاسفة والمفكرين إلى أن الأسس العملية لوجود الكون ناجمة عن وجود الصراعات بين الأحداث باعتبار أي فعل أو شيء أو إرادة أو رغبة أو مادة أو جسم حدثاً مؤثراً في دراسة نشأة الكون، فتجلى الصراع الأول بنظرية الانفجار الكبير التي تفسر وجود المجرة التي ننتمي إليها، وتجلت بعده الصراعات التي نعرفها كما أوردتها الكتب السماوية وأحاديث السابقين ابتداءً من الصراع بين النور والنار، وصولاً إلى ما تشهده البشرية في هذه الأيام من صراعات تتجسد على شكل حروب متفرقة تحضيراً للحرب الكبرى التي تنهي الكون بصراع يعتبر هو الصراع الأخير.
ولعل المفارقات الأبرز في الصراع الأخير هو مجموعة الحروب المتنوعة التي يتضمنها هذا الصراع، والتي يشكل صراع الفوضى الفكرية الحدث الأبرز فيها، حيث توجه باقي الحروب الأخرى المنبثقة عن هذا الصراع كالحروب النفسية والإجتماعية والإقتصادية والديموغرافية والتي تعتبر امتداداً وتكملةً للحرب العسكرية مرتفعة التكلفة على المهزوم والمنتصر على حد سواء.
ويقوم صراع الفوضى الفكرية على تجميع كل ما يمكن للفرد أن يتغنى ويفتخر به في إطار إيديولوجي يُخفي الإطار العام المقصود نشره وتعميمه خاصة عندما يكون هدفا غير مرغوباً به من قبل الجماعات الأخرى في بادئ الأمر ، لكنه سرعان ما يلقى قبولاً وانتشاراً دون معرفة الهدف المقصود منه من خلال صراع داخلي بين الفرد ونفسه، وبين الفرد والجماعة التي ينتمي إليها إبتداءً من الأسرة وصولاً إلى الهوية الأممية للأمة التي ينتمي إليها، وهو ما برعت فيه الماسونية في إطارها النظري الذي قدمه لنا من قام بالبحث في مكوناتها.
لقد استطاعت الماسونية عبر براعتها في صناعة صراع الفوضى الفكرية أن تجعل العقل البشري المناهض لها رهيناً لما تبثه من معطيات وأحداث سواء أكانت صحيحة أم مغلوطة، تخدم الفرد أم تتعارض مع مصالحه، الأمر الذي جعل قادة المجتمعات المستبدة في تخبط سلوكي تجاه الشعوب التي يتحكمون بمصيرها مما أفقد تلك الشعوب أنفسها القدرة على الاختيار الصحيح لما يحقق أهدافها بعيداً عن اختراقات الفوضى الفكرية التي يبثها المروجون للماسونية.
ولعل ما نشهده هذه الأيام من فوضى تحركها الحرب النفسية وتقودها الشعوب الجاهلة بما يُخطط لها من أبرز الشواهد على هذه الفوضى، إذ أصبحت سمة الشك والتخوين والعمالة للماسونية من أبسط الصفات التي يطلقها الفرد على الأخر الذي يشاركه أو ينافسه في تحقيق أهدافه، حتى أصبحت سمة الشك تتناول كل ما نقوم به من حياتنا اليومية، وتُطلق على كل ما يقوم بحركة أو فعل لا يألفه الأخر، كما يحدث في هذه الأيام من ترويج كبير لبعض الرموز والدلالات التي اعتدنا على رؤيتها في أماكن مختلفة من العالم دون الربط الظاهري أو الضمني بينها، كالمسلة أو الشمعدان أو حركة الإصبعين السبابة والبنصر وغيرها من الرموز والدلالات، حتى أصبحت رموز الحضارة والجمال نفسها التي افتخرنا بها خلال سنوات طوال مضت موضعه اتهام وإدانة، وأصبحنا أنفسنا موضع اتهام وإدانة لأننا ندافع عنها لما نكنّه لها من دلالات معنوية وقيم تاريخية لا تمت لما نُتَّهم به بصلة، فهي قد تكون مسألة جمال أو تقليد أصم، أو مسألة إبداع رمزي لغايات أفصح عنها مشيدوها أو مصمموها، وقد تتوافق مجموعة من الاعتبارات معاً وليس بالضرورة أن تنتمي أو تعبر عن جماعة أو فكر مغاير لما تم بناؤها عليها.
إن اختراقات العقل البشري عموماً، لا تتم في المجتمعات التي يكون العمل فيها هو مقياس مكانة الفرد ورقيه، حتى لو كانت السمة الليبرالية المتوحشة هي الغالبة على هذه المجتمعات، لكننا في مجتمعاتنا العربية، حيث يحضرنا النسب والثروة والمقدرة الجسدية على الزواج وغيرها من سفاسف الأمور البشرية أصبحنا عرضة ليس فقط للاختراق، بل لأن نكون كفئران التجارب للأمم المتقدمة وعلمائها، حتى أصبحنا لا نبحث عن مكونات النهضة الحضارية بالقدر الذي نسعى فيه فقط لتقليد من يتغنى بها، فرفض ما يبيده لنا على أنه ضد مصلحتنا دون حتى التمعن به، ونقبل ما دون ذلك، الأمر الذي انعكس على نتاجنا الثقافي والحضاري، وجعلنا أمة متقدمة في التفاخر بأنها الميدان الأهم لتجارب صراعات الفوضى الفكرية بين القوى المتصارعة في العالم، لذلك توقعوا أن يكون نتاجنا الثقافي في الأيام القادمة مسلسلاً تلفزيونياً مدبلجاً عن العبرية يعرض للأطفال فوق الثامنة عشرة من العمر.
أي أننا إن بقينا على عنجهيتنا الزائفة هذه، فنحن كأمة حضارية في طريقنا للاحتضار.
سيريان تلغراف | د. يحيى محمد ركاج
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)