يوم بدأ التواصل الأميركي – الإيراني قبل انتخاب الرئيس حسن روحاني، طرحت واشنطن على طهران التفاوض على سلة كاملة لا تقتصر القضايا المطروحة فيها على الملف النووي، بل تتناول كل قضايا الشرق الأوسط. رفض الإيرانيون حينها الطرح الأميركي، وأصروا على صيغة الخطوة تلي خطوة. كان الهدف في واشنطن كالعادة طمأنة الإسرائيليين بأن السعي يدور مع الإيرانيين حول “سلام في المنطقة” يُبعد المخاطر عن تل أبيب.
كان رفض طهران يستند الى ارتياح الإيرانيين من غزه الى لبنان وسوريا والعراق وصولا الى بلادهم. كان “محور المقاومة” يتحكم بلعبة الميدان على طول تلك المساحة. لكن الأزمة المالية الإيرانية التي انتجها الحصار الاقتصادي والعقوبات فرضت على طهران ضرورة التفاوض مع واشنطن، لا خوفاً من ضربات عسكرية جرى الإعداد لها في الولايات المتحدة.
تقرّب الأوروبيون من المسؤولين الإيرانيين تدريجياً. رغم العقوبات ازدادت الإشارات حول استثمارات أجنبية مرتقبة في الجمهورية الإسلامية. تقدم الفرنسيون الى حد لعب دور الوسيط بين طهران وواشنطن.
في العلن تفاوض يتدرج بين الإيرانيين و”الدول الست” حول الملف النووي، وفي السر محادثات قائمة حول عدد من القضايا من بينها ملف لبنان، بين الفرنسيين والإيرانيين، إلى درجة ان باريس طرحت فكرة “المثالثة” لإدارة اللعبة السياسية اللبنانية.
توسعت مساحة الأزمات في المنطقة بعد تمدد “الثورات”. كانت تعتقد ايران في البداية ان “صحوة إسلامية” تمتد ستساند دورها من ليبيا الى تونس ومصر وغيرها. من هنا كان دعمها للرئيس المصري “الإخواني” محمد مرسي. لكن سريعاً ماذا حصدت؟ خيبة أمل فرضت على طهران الاعتراف “بانحراف الصحوة”.
خرجت “حماس” من تحت العباءة الإيرانية بهدوء. أدركت طهران وجود خطر على مشروع المقاومة الذي دعمته طيلة ثلاثة عقود مضت. هذه الخسارة استراتيجية بالنسبة الى الإيرانيين رغم بقاء الاتصالات اليتيمة على خط “حماس” – طهران.
ازداد التوتر في سورية و تمددت مجموعات متطرفة شمال وشرق البلاد وصوبت مباشرة على حلفاء ايران، فتدخل “حزب الله” عسكرياً لإبقاء التواصل الجغرافي الحيوي قائماً بين بيروت وطهران عبر دمشق.
الأزمة توسعت وصولا الى خسارة الحكومة العراقية المركزية – الحليفة لطهران – الموصل والحدود بين العراق وسوريا سريعاً. لم يقتصر الأمر هنا. جرى استنزاف المقاومة اللبنانية على حدود سوريا في القلمون. وصلت لاحقاً “داعش” الى عرسال اللبنانية وهددت مناطق بقاعية تشكل خزان المقاومة في بعلبك – الهرمل.
تفرجت واشنطن على حروب طاحنة تجري على اراضي سوريا والعراق. كانت الادارة الاميركية سابقاً حضّرت خطة عسكرية مدروسة لاستهداف سورية تحت عنوان ضرب “الأسلحة الكيميائية”. جاء التجاوب السوري بنزع تلك الأسلحة. هنا حققت واشنطن إنجازاً، معطوفاً على استهداف اسرائيل لقواعد الدفاع الجوي في سوريا التي تشكل خطراً على تل أبيب. ما لم تفعله إسرائيل نفذه المسلحون في عدد من المناطق السورية.
لم يعد بإمكان الإيرانيين رفض اي تفاوض. لا قدرة لهم على عدم إشراك الأميركيين او حلفائهم في ملفات المنطقة. باتت الحاجة ضرورية لمساندة تضرب “داعش” وتقضي على الفرز المذهبي. التنظيم المتطرف يملك مقومات دولة غنية من نفط وجغرافية وديمغرافية و مياه. لا إمكانية لطهران مع حلفائها وحدهم على محاربة “الداعشيين”. الأمر يحتاج الى تحالف دولي ضد التطرف.
تراجعت إيران عن موقفها المؤيد للحكم ” الإخواني” في مصر. ستتعامل حكماً مع حليف السعوديين الرئيس عبدالفتاح السيسي. ستتعاون مع الرياض حول اليمن. رفعت الغطاء عن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي لصالح حليف آخر سيقدم على تأليف حكومة وحدة وطنية، ما يعني شراكة مع السعودية في شأن العراق.
لا يمكن استبعاد ما يجري في لبنان سواء إيجاد حكومة وحدة أو عودة رئيس تيار “المستقبل” النائب سعد الحريري الى بيروت عن أجواء التواصل القائم.
جاءت مباركة المرجع الإيراني السيد علي الخامنئي للتفاوض النووي مع الغرب لتؤكد الانعطافة القائمة. فماذا بعد ؟
يطمح الأميركيون للحصول على مزيد من التنازلات الإيرانية. لأجل ذلك لم يجر الاتفاق بعد حول شخصية الرئيس اللبناني العتيد ولا بت ملف الانتخابات النيابية في لبنان.
يرغب الأميركيون وحلفاؤهم بإزاحة الرئيس السوري بشار الأسد. لكن لن تصل الأمور الى هنا. عملياً لم يعد بالإمكان المناورة الأميركية أكثر. في سورية استُعملت كل السُبل. المزيد من الوقت سيسمح للداعشيين بالقضاء على كل الحلفاء المباشرين للسعودية والولايات المتحدة في سورية.
الأولوية قبل كل شيء الآن بالنسبة لواشنطن الحصول على تسوية لضمان أمن وسلامة إسرائيل. كما أن أربيل عاصمة كردستان- حليفة الولايات المتحدة- باتت مهددة من قبل “داعش” ولا مجال للانتظار. في أربيل ربع إنتاج النفط العراقي ومعامل تصنيعه والقواعد العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية للأميركيين في المنطقة. لقد بات أمر التدخل العسكري الأميركي أو التعاون مع طهران حقيقة.
قدمت طهران التزاماتها، فماذا سيقدم الأميركيون؟
إشارات سعودية أوحت بالسير قدماً في التحولات الجديدة بدليل بيان الملك عبدالله بن عبد العزيز حول ضرورة مواجهة الإرهاب والتبرؤ منه، ودفع مليار دولار هبة للبنان و الطلب من الحريري العودة الى بيروت و مباشرة المواجهة السياسية مع الإسلاميين المتطرفين.
الضربات الجوية الأميركية رغم محدوديتها تُؤكد الانخراط بالمشروع. المطلوب قيام تحالف دولي ضد “داعش” ومحاصرة التنظيم و ملاحقة مموليه و منع الاستيراد النفطي منه مباشرة او بالوساطة.
ثمة قضايا عالقة أيضاً خصوصاً ما يتعلق بالسباق بين تركيا والسعودية. وصول رجب طيب أردوغان الى الرئاسة التركية يعزز من دور “الإخوان المسلمين”. ما يعني ان النزاع سيتظهر بين أنقره والرياض وما بينهما الدوحة القطرية.
الأهم في التحولات الجديدة أن فرز المنطقة على أساس مذهبي قد سقط. لكن الفرز السياسي الاستراتيجي تجذّر.
سيريان تلغراف