في الأسبوع الرابع للعدوان، وبعد أسبوعين من المعركة البرية، تقف إسرائيل عند بوابات غزة حائرة: هل تتقدم أم تتراجع؟ وأيهما أجدى؟
ولتغطية حيرتها لا تجد سبيلاً سوى تكثيف الغارات والانتقال من جريمة إلى أخرى، من استهداف البيوت والمستشفيات إلى استهداف المدارس والأسواق والمستشفيات، مروراً بتدمير البنى التحتية، وكأنها ترسل رسالة مدوّية إلى الجمهور الفلسطيني في غزة مفادها: إذا كانت شلالات الدماء لا تردعكم، وتقييد منافذ الحياة لا تخيفكم، فليس ثمة سبيل سوى دفنكم تحت الأنقاض!
أما غزة، فلا تزال تصر على المقاومة، وتنهض من تحت الأنقاض، فتقاتل بتفجير ذاتها في عدوها، وفي سعيها لاقتحامه من تحت دباباته، لتصل إلى داخل مواقعه الآمنة خلف الخط الأخضر.
أعداد الشهداء في ارتفاع كبير، وقد زادت عن 1400 شهيد، غالبيتهم الساحقة من النساء والأطفال، فضلاً عن أكثر من 7600 جريح، بالإضافة إلى الدمار والحرائق في كل مكان. كما انقطعت الكهرباء بشكل كامل عن القطاع.
وارتكبت قوات الاحتلال أمس، المزيد من المجازر، التي سقط بنتيجتها 17 شهيداً، وأكثر من 150 جريحاً، في مدرسة تابعة إلى «الأونروا» في مخيم جباليا، و17 شهيداً، بينهم الصحافي رامي ريان، وأكثر من 200 جريح في سوق في الشجاعية.
لكن غزة تجبي ثمن دمائها أولاً من أرواح جنود العدو، الذي اعترف حتى الآن بمقتل 56 جندياً، جزء كبير منهم من جنود النخبة في المظليين و«جولاني» و«ماجلان»، وإصابة المئات.
ورغم أن هذا ليس موضع تقدير الخسائر الاقتصادية، فإنه من المهم ملاحظة أن التقديرات تتحدث عن مطالبة الجيش الإسرائيلي بعشرة مليارات شيكل (ثلاثة مليارات دولار) لتغطية تكاليف إعادة ملء مخازن الذخيرة وتعويض السلاح. وفضلاً عن ذلك، ثمة تقديرات تقول بأن تكلفة الحرب اليومية عسكرياً لا تقل عن 150 مليون دولار، وأن التكلفة الاقتصادية كخسائر وتعويضات تصل إلى 350 مليون دولار يومياً، ما يرفع التكلفة الإجمالية إلى حوالي نصف مليار دولار يومي
وعلى رغم اللجوء إلى أسلوب التدمير الشامل لأحياء وبلدات ومناطق، فإن المقاومة لم تتراجع، وظلت تطلق الصواريخ نحو تل أبيب وبئر السبع، وحتى نحو القدس وحيفا. وإذا كان التدمير الإسرائيلي المنهجي لقطاع غزة لم يكسر شوكة المقاومة، فإن الرد الفلسطيني أحدث، وبشكل متعاظم، شرخاً، ليس فقط بين المستويين السياسي والعسكري، وإنما أيضا في ثقة الإسرائيليين بأنفسهم.
الجيش الإسرائيلي الذي يصرخ صبح مساء، بأن على الحكومة الإسرائيلية أن تقرر ما ينبغي عمله – التقدم أم التراجع – يتعرض لاتهامات متزايدة من المستوى السياسي بأنه لم «يوفر البضاعة»، فالجيش عاجز عن حسم المعركة حتى في حدودها الدنيا، والمتصلة باكتشاف وتدمير الأنفاق، في شريط لا يزيد عن بضع مئات من الأمتار على طول حدود قطاع غزة. وتكشف المعطيات أنه رغم تواجد 50 طائرة رصد إسرائيلية، على الأقل، وفق قائد اسبق لسلاح الجو الإسرائيلي، في كل لحظة على مدار الساعة، فإن الجيش الإسرائيلي عاجز عن رصد حركة المقاومة. كما أنه، وبرغم الميل للتدمير المنهجي الشامل، بقصد تدمير بيوت فوق الأنفاق، وتفجير أنفاق بقصد قتل من فيها، فإن المقاومة، خصوصا «كتائب القسام»، تواصل مفاجأة العدو في عقر داره
ولا يمكن تقدير مدى الحرج الذي أصاب إسرائيل إثر نشر شريط فيديو بتقنية عالية يوضح عملية اقتحام مقاتلي «القسام» موقعاً عسكرياً قرب كيبوتس ناحال عوز داخل الأراضي المغتصبة. ويطل هذا الموقع على حي الشجاعية الذي تدعي إسرائيل احتلاله وتدمير أنفاقه وبيوته وتهجير سكانه. ووفّر الشريط أفضل صورة نصر للمقاومة، لأنه أظهر بعد ثلاثة أسابيع من الحرب جرأة المقاومين وسيطرتهم الميدانية وقدرتهم على المبادرة. وقد اضطر قادة عسكريون إسرائيليون للإقرار بأن كل ما يفعله الجيش الإسرائيلي في الوضع الراهن هو تعريض نفسه للتآكل، خصوصاً في ظل عجزه عن خلق الردع المطلوب.
وفي ظل هذا الواقع، تجد إسرائيل نفسها في وضع لا تحسد عليه. فمن ناحية، بدأ الجمهور الإسرائيلي في طرح أسئلة حول الأسباب التي قادت إلى بلوغ هذا المأزق الذي يشجّع قوى أخرى على التجرؤ على الدولة العبرية. ونظراً إلى الخلافات المتزايدة بين المستويين السياسي والعسكري، وبين المستويين الشعبي والرسمي، فإن هناك من ينظر بخطورة أيضا إلى تعاظم الخلافات بين إسرائيل والولايات المتحدة. ومعروف أن الخلافات بين واشنطن وتل أبيب تدور حالياً في ظل تبادل اتهامات وحملات شخصية، خصوصاً بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وأمام هذه الحالة تتزايد المطالبات من أوساط مختلفة بوجوب تشكيل لجنة تحقيق رسمية للبحث في أسباب وصول إسرائيل إلى هذا المفترق
وتضغط الولايات المتحدة والأمم المتحدة طوال الوقت على إسرائيل لإنهاء العملية، وإعلان وقف لإطلاق النار على أساس تفاهمات العام 2012. لكن إسرائيل التي تشعر اليوم أنها مهانة من جانب قطاع غزة «البائس» والصغير والمحاصر، ولا تريد لأحد أن يعيد الكرّة بهذا الأسلوب معها، تجد نفسها مضطرة لمواصلة القتال. ويوم أمس، اجتمع المجلس الوزاري المصغّر، وقرّر ما سبق وقرّره مراراً، وهو توسيع العملية، ولكن بأسلوب «من نفس الشيء وبشدّة أكبر».
وتجد حكومة نتنياهو نفسها في وضع بالغ الصعوبة أمام جمهورها وفي الحلبة السياسية، فتطوير المعركة، وصولا إلى تحقيق هدف إعادة احتلال قطاع غزة أمر مكلف من كل النواحي العسكرية والاقتصادية والسياسية. والتوقف كما ينادي البعض، وبعضهم وزراء حاليون وسابقون والرئيس المنتهية ولايته شمعون بيريز، على أساس أن العملية استنفدت أغراضها، يعتبر في نظر آخرين هزيمة يصعب تحمّلها. ولذلك تتخبط إسرائيل بين البحث عن تسوية، تحقق لها سياسياً ما عجزت عن تحقيقه عسكرياً، أو السعي للإيغال في الدم الفلسطيني لترسيخ الردع بقوة النيران عبر كي الوعي.
سيريان تلغراف