بات واضحاً أن القضية ليست سوى نزع سلاح المقاومة الفلسطينية بأي ثمن، وكل ما عدا ذلك ليس سوى تمويه. جهود تقودها السعودية ومصر والإمارات بتنسيق مع الولايات المتحددة و”إسرائيل”. هذا على الأقل ما تكشف عنه المعلومات وما تؤكده الوقائع.
سأل أحدهم أحد القادة الفلسطينيين عن سبب إلغاء زيارة الرئيس محمود عباس للسعودية ولقاء الملك عبد الله، فقال: الزكام. فعلّق ضاحكاً لا بد أن يكون زكاماً سياسياً.
لم يعد إلغاء لقاء مع الملك السعودي عبد الله يتطلب أكثر من إرجاعه الى «سبب صحي»، فالأمراض التي يعانيها الملك كافية لأن تقطع التكهنات حول أسباب الإلغاء…
الرياض التي قرّرت إغلاق الأبواب بصورة نهائية في وجه حماس، باعتبارها أحد تشكيلات «الإخوان المسلمين»، لم تشأ فتح قناة تواصل مباشرة مع قادة الحركة. وشاءت الأقدار هذه المرة أن العلاقة بين الأطراف المعنيّة بالقضية الفلسطينية في معسكر الاعتدال، وعلى وجه الخصوص (السعودية، مصر، تركيا، قطر…) ليست على ما يرام بل في أسوأ حالاتها، فلا الرياض تتواصل مع الدوحة وأنقرة، ولا الأخيرة على وفاق مع القاهرة، ولا حماس مرحّب بها في القاهرة والرياض، دع عنك علاقة هذا المعسكر مع المعسكر الآخر، حيث تراجعت فرص التقارب بين الرياض وطهران، وحتى شعرة معاوية التي كانت تربط بينهما انقطعت بعد دخول داعش على خط التجاذب الإقليمي والدولي بسيطرته على الموصل وأجزاء أخرى من العراق…
في المعلومات، كانت الرياض تعدّ لأبي مازن عرضاً صادماً بأن يرسل جنوده الى معبر رفح تمهيداً لمرحلة جديدة يكون عنوانها سحب سلاح «حماس» و«الجهاد»، وسوف تتكفّل السعودية والإمارات بدفع كل ما يتطلبه تنفيذ هذه المهمة من أموال. للإشارة، فإن إرسال الجنود الى المعبر كانت تطرحه الفصائل الفلسطينية نفسها على أبو مازن كخطوة معبّرة عن استعدادها للتعاون والمصالحة طالما أن ذلك سوف يلبي حاجات الغزّاويين.
شعر عباس بأن العرض السعودي بمثابة انتحار سياسي له وللشعب الفلسطيني، وأنه يهدف، في نهاية المطاف، إلى تقويض المصالحة الوطنية، وإشعال حرب أهلية فلسطينية، وخصوصاً بعدما تلمّس نجاعة خيار المقاومة وجدارته حتى في المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي. ألغى أبو مازن رحلته المتّجهة من عمّان الى جدّة، بعد حصوله على معطيات حول العرض السعودي، وعاد الى رام الله وقرّر مخاطبة شعبه مباشرة، فأكّد على أن الهدف الرئيس من العدوان الإسرائيلي هو «إجهاض عملية المصالحة الوطنية»، وطالب بضرورة «إخراج القضية الفلسطينية من التجاذبات السياسية»، وشدّد على «تمسك القيادة الفلسطينية بالوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام»، وزاد على ذلك بأن تبنّى شروط المقاومة، وإن جعلها في مرتبة ثانية بعد أولوية وقف العدوان الإسرائيلي على غزّة.
وقد استقبلت فصائل المقاومة الفلسطينية بكل أطيافها كلمة عباس بارتياح، وهناك من بنى عليها واعتبرها بمثابة حالة تجلّ للروح الخفيّة لدى أبو مازن حين يتحرر من ضغوط الأشقاء والأصدقاء…
ولا بد من وقفة عند مجريات الزيارة المفاجئة التي قام بها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لجدّة ولقاء الملك عبد الله في 23 تموز الجاري. الزيارة لم تدم أكثر من ساعتين، سمع خلالها الشيخ تميم كلاماً محدّداً بأن لا مبادرة بديلة من المبادرة المصرية أو موازية لها. فهم الجانب القطري بأن ثمة شرطاً جديداً أضيف قبل عودة سفراء الرياض وأبو ظبي والمنامة الى الدوحة، ويتمثل في قبول المبادرة المصرية كما هي، ورفع الغطاء عن حماس.
تراجع منسوب التفاؤل لدى القيادة القطرية، وكانت تأمل بأن تطوى صفحة الخلاف مع «الشقيقة الكبرى»، ولكن الشيخ تميم خرج من لقاء الملك عبد الله باقتناع راسخ بأن «الأشقاء في الرياض» لا يزالون على الحال نفسها ولم يتغيّروا، بل يتصرفون باعتبار الدول الخليجية الأخرى مجرد «ملحقات» بمملكة آل سعود.
توافرت لدى أمير قطر معطيات تفيد بأن السعودية والإمارات تسعيان من خلال المبادرة المصرية إلى سحب السلاح من حماس وحركات المقاومة الفلسطينية في سياق خطّة متفق عليها مع الإسرائيليين والأميركيين. كانت السعودية تحاول فرض الخطة على محمود عباس خلال لقاء كان مقرّراً مع الملك عبد الله، قبل أن يحصل أبو مازن على معطيات حول العرض السعودي، والذي يتعارض كليّاً مع ما أعلن عنه صائب عريقات عن خلاصة لقاء أبو مازن وخالد مشعل في الدوحة في 12 تموز والمتمثل في «وقف العدوان الإسرائيلي ورفع الحصار عن قطاع غزّة»، مع أخذ التعديلات التي اقترحتها حماس على المبادرة المصرية في الاعتبار…
السعودية رفضت إجراء أي تعديل على المبادرة المصرية وطلبت من كل الأطراف تأييدها، مع أن المبادرة تساوي بين الضحية والجاني، بالرغم من الاختلال الحاد والكبير في ميزان القوى بين الطرفين، وتتغافل حتى عن مجرد إدانة للجرائم الإسرائيلية على القطاع أو تشير، مجرد إشارة، الى حقوق الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة وباقي أجزاء فلسطين المحتلة.
في كل الأحوال، فإن ما تضمره المبادرة المصرية من أسرار تفشيه التصريحات الأميركية والإسرائيلية، وقد بدا أن الهدف من العدوان الإسرائيلي على غزة بات معروفاً: نزع سلاح المقاومة. وكل ما سوف يقال بعد ذلك هو مجرد مساحيق لتلميع الخطة التي أعدّت في مرحلة سابقة.
ثمة في المواقف الإسرائيلية ما يلفت الى تطابق شبه تام مع المقاربة السعودية الإماراتية المصرية. مسؤول مؤسسة الدفاع الإسرائيلية السابق، ومدير العلاقات السياسية والعسكرية الحالي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، عاموس جلعاد، قال أخيراً، إنّ «تعاون إسرائيل الأمني مع مصر ودول الخليج (الفارسي) هو فريد من نوعه، وهذه هي أفضل فترة من الأمن والعلاقات الدبلوماسية مع العالم العربي». هل كان مجرد قفزة في الهواء؟ لا يبدو كذلك، فهناك معطيات أخرى تؤكّد ما هو أبعد من ذلك.
سوف تكون مقالة ديفيد هيرست في صحيفة (ذي وورلد بوست) في 20 تموز الجاري حول الأمر الملكي السعودي وراء الهجوم الإسرائيلي على غزة مجرّد تحريض على المملكة، ولكن حين توضع الى جانب تصريحات مسؤولين كبار في الكيان الإسرائيلي نصبح أمام حقائق وليس تخرّصات. فالمقالة تأتي تعليقاً على تصريحات وزيري الدفاع السابق واللاحق شاؤول موفاز وديفيد آيالون على التوالي، إذ يصبح الأمر الملكي «ليس شيئاً آخر سوى سرّ مفتوح في إسرائيل، حيث تحدّث كل منهما عنه بارتياح» حسب د. هيرست.
في 20 تموز الجاري، أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز تصريحاً لافتاً بدعوته لأن تضطلع السعودية والإمارات بدور «لنزع سلاح حماس ومجموعات المقاومة الأخرى». موفاز قال للقناة العاشرة الإسرائيلية إن من المستحيل على الجيش الإسرائيلي نزع سلاح القطاع بالقوة، حتى لو قرر إعادة احتلاله بالكامل. ولذلك، فإن هذا الأمر يتطلب خطة شاملة دبلوماسية وسياسية واقتصادية من أجل تحقيق هذه الغاية. ولفت موفاز الى أن بإمكان السعودية والإمارات، في الظرف الراهن، أن تلعبا دوراً هاماً في توفير التمويلات اللازمة لتنفيذ هذه الخطة.
وفي السياق نفسه أيضاً، وفي 14 تموز نقلت صحيفة (يديعوت أحرونوت) عن مصادر حكومية أنباء عن نيّة إسرائيل طرح اقتراح في مجلس الأمن يقضي بتقديم 50 مليار دولار لإعمار غزة، مقابل التهدئة ونزع سلاح حماس والفصائل الفلسطينية. ونقلت الصحيفة عن تلك المصادر قولها: «إن إسرائيل تريد الحصول على ضمانات دولية، كتلك التي تمّ الاتفاق عليها في ملف نزع الأسلحة الكيميائية السورية».
مصادر فلسطينية مقرّبة من حركتي «حماس» و«الجهاد» تتحدث عن عروض خليجية سخيّة على الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن يقوم بما يلزم لنزع سلاح المقاومة، في مقابل إعادة إعمار القطاع، إضافة الى رفع الحصار الاقتصادي ووضع خطة تنموية شاملة في الضفة والقطاع.
تحاول السعودية والإمارات حشد أكبر عدد من الأصوات الداعمة للمبادرة المصرية على المستويين الإقليمي والدولي، بالرغم من تراخي المجتمع الدولي في دعم مبادرة التهدئة، وحتى وزير الخارجية الأميركي جون كيري بدا أقل حماسة من ذي قبل في دعم وقف إطلاق النار، بعد تعنّت الجانب الإسرائيلي. لم تكن السعودية مدرجة على جدول زيارات كيري لمناقشة موضوع غزة، ما يثير سؤالاً حول جديّة المسعى الأميركي، أم أن تقاسم الأدوار يتطلب ذلك؟
في النتائج: حركات المقاومة الفلسطينية في غزّة ليست على استعداد للتنازل قيد أنملة عن شروطها، بالرغم من أن هذه الجولة من العدوان الإسرائيلي على القطاع هي الأشرس مقارنة بالجولات السابقة، وإن الأجنحة العسكرية في (حماس) و(الجهاد) وبقية الفصائل الفلسطينية المقاومة هي الآن أصلب عوداً، وهي من يقرر مصير المعركة ومسارها على الأرض. مصادر المقاومة الفلسطينية تتحدث بتفاؤل عن مواقف أبو مازن في كلمته للشعب الفلسطيني، فلأول مرة يضع «صواريخ» المقاومة كجزء من النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.
سيريان تلغراف