الخوف هو أعمق المشاعر الإنسانية ، من أجل هذا كان هو المصدر الجذريّ للخرافات ، و من أجل هذا ابتكر الآباء الأوائل الكهوف لتحميهم من غضب الطبيعة و أساليب الكائنات المفترسة ، و هم أيضاً ، و رغبة منهم في حماية إضافية لا تكلف شيئاً ، ابتكروا الآلهة ليجعلوا منها بطقوس بسيطة يؤدونها لها دروعاً تحميهم لوقت الحاجة ، لكنها دروع ذهنية بالتأكيد ..
مع ذلك ، في كل زمان و مكان ، كان هناك ألوان من التجمعات البشرية المسكونة بإيقاع غريب ، أشبه بالنبضات المنعزلة ، بعض المنتمين لهذه التكتلات هم الذين ابتكروا أدوات الصيد ، إذ رأوا أن خير وسيلة للدفاع الأفضل ، و لتهدئة مخاوفهم من الحيوانات الأقوي هو تبادل المقاعد ، بمعني آخر ، قرروا معاملة تلك الوحوش كفرائس لا أكثر ، و ما يحدث بعد ذلك فليحدث ..
لسوء الحظ ، أمثال هؤلاء يعيشون دائماً علي هوامشهم الخاصة ، و يتحولون عادة مع الوقت إلي قوميات خاصة ، و إن قوميات معنوية ، ترفض الذوبان في الذاكرة الكلية و ترفض حتي تماهي أفكارها مع أفكار الآخرين ، بل و تعمل علي حماية أفكارها من المد و الجزر ، كالغجر مثلاً ، و كـ ” اليهود ” لقرون طويلة و حتي يومنا هذا ، و كـ ” بني عامر ” في الجاهلية ، و هي واحدة من أربعة تكتلات قبلية عُرفت بـ ” جمرات العرب ” ، لأنهم كانوا يخوضون الحروب دون تحالفات مع أي قبيلة أو قبائل أخري ، و الأهم من هذا ، لأنهم كانوا ، متي مسَّهم بغيٌ من قبيلة أخري ، مهما كانت قوتها ، لا يزنون المجازفات و لا يبحثون البدائل قبل الدخول في معركة أكيدة ، و كانت نتيجة تلك المعركة آخر ما يفكرون به ..
و لو كان ” بنو عامر ” ممن يزنون المجازفات لأعلنوا الاستسلام فوراً حين تحالفت ضدهم كل القبائل العربية تقريباً في معركة ” شِعْب جبلة ” ، لكن ذلك لم يحدث ، بل خاضوا المعركة ببساطة الماء و انتصروا ، و لجلال هذا الحدث الجلل ، تخيل ، قبيلة تنتصر علي كل القبائل العربية مجتمعة ، صار يوم ” شعب جبلة ” هو اليوم الذي تؤرخ به العرب لمناسباتها الخاصة حتي تواري في ظل تاريخ الهجرة الضخم !
و هكذا قوميات معنوية ، تفضل العيش علي هامشها الخاص ، لأنهم الاستثناء لا القاعدة ، و لأنهم ، بنجدتهم و نبل أفكارهم في الغالب ، يفضحون ضحالة الآخرين و نذالتهم ، كانوا ، في كل زمان و مكان ، منبوذين ، يحدق الآخرون النظر إليهم بعيون سرية مزدحمة بالأحقاد ، و يكيدون لهم في الظلمة ، كحال العاهرات مع ذوات العفة ، و كحال قبيلة ” الإمارات ” مع ” غزة ” ، فلقد عرضت ، قيل ، علي ” اسرائيل ” ، كما يليق بقبيلة كلاسيكية ، أن تدفع كل تكاليف الحرب علي هذه القومية ذات الميول التحررية التي تشكل خطراً علي تراث القبيلة الفاشل ، كما طردت من مضاربها و خيامها الإسمنتية إمام مسجد اقترف من فوق المنبر الدعاء لأهل ” غزة ” ، أولئك المنتمين لجماعة ” الإخوان المسلمين ” ( الإرهابية ) ، تلك المتهمة بالسعي إلي نيل الحرية ، و التي تسعي لتقسيم ( الوطن ) ، و هذا خبر أكيد !
عن أي عروبة بعد هذا الحدث الجلل يتحدث أصحاب الحد الأدني ؟ ، عن أي عروبة أيها المغيبين تتحدثون بعدما أطلق الغدر بيننا صيحته ، و صارت بيننا دماء قديمة و دماء جديدة و دماء تتهيأ للسيلان ، تمد جذورها في كل مكان ؟
ربما اعتقد الذين لا يمضغون الواقع حتي القشرة الأكثر سمكاً أن ” غزة ” حين تناصب قوة كـ ” اسرائيل ” العداء بصدور عارية و مفتوحة علي مصراعيها لابد أنها مخطئة و غبية و عاجزة عن إدراك الفجوة الفادحة التي تفصل بينها و بين عدوها ، و هذا الاعتقاد تحديداً يلتحم بالمعني الذي تقصده ” حماس ” ، فواقع المقاومة لا يعترف بحقيقة الصراع و لا التحديات ، إنه اتحاد بين الأشياء و الإنسان من خلال المقاومة فقط ، يشعر المقاوم خلاله أنه مسئول عن كل شئ ، و عن العالم و عن مصيره لا عن نفسه و عن قضيته فقط ، و هنا فقط ، تلتقي الحياة و الموت في معني واحد ، فكلاهما خطوة علي الطريق ، هذا ما لا يستطيع أن يدركه الفارغون إلا من المال ، أولئك الإضافيون ، تلك الزوائد اللحمية علي جسد الدنيا ، و الحشو العفن في فراغات الإنسانية الذي يمنح الآخرين معني لوجودهم ، و هذه هي فقط سعة موجتهم في محيط الإنسانية ، تماثيل من رمل معجون ببول الكلاب الضالة و عرق العاهرات لخصيان براقة لا أكثر و لا أقل ..
“غزة ” جارتنا ، و ” غزة ” جمرة العرب الخامسة ، و ” غزة ” تشتري لنا بدمها ، كلما تبهت مرايانا ، مرآة جديدة بحجم آلام الثكالي و غضب الموتورين ، لنري فيها وجوهنا القبيحة و واقعنا العاهر ، و هي توقظ رنين الأجراس كلما يخفت لتؤكد لنا حتمية استعادة ربيعنا الذي سرقوه بقوة السلاح ، كما يسرق الشتاء من الأشجار فتنتها ، و جعلوا منه الخريف الأقل جمالاً عبر العصور ، لكن النار التي ربما تولد الآن في العتمة ، سوف تحرق كل شئ ، كل شئ ..
إن من الضروري أحياناً أن تصدح أصوات البنادق بذبذباتها الحادة لتتفاقم في العيون هشاشة الخلفية الزائفة للمشهد الفاشل ، و يفصح عن قلبه كل خائن ، هكذا أظن ، و آخر ما أفكر فيه هو أهل ” غزة ” فالقتل لهم عادة ، و لابد للأفكار العظيمة أن تكون آلاماً عظيمة ، و هي في هذا عكس الرغبات الضحلة للبدو ، و ذيول البدو الخصيان الذين حصلوا علي أجورهم بإفراط ، فهي محاطة بالفراغ ، و أقل خصوبة من البغال العقيمة ، و لسوف تخيب مؤامراتهم إن عاجلاً أو قبل حلول عام ” 2020 ” علي أكبر تقدير ، و لسوف تذهب خيامهم أدراج الرياح ، الرياح التي تجمع الآن روائح الجبال في زجاجة ” الشرق الأوسط الجديد ” ، ولسوف تبقي “غزة ” قومية أنيقة تسمو علي الذاتية ، أشبه بالأساطير العظيمة الخالدة ..
لا شئ يحدث مرتين بنفس الطريقة ، لذلك ، لا تدق طبول الحرب علي ” غزة ” هذه المرة ارتجالاً ، حتما سوف يستدير هذا الكلام في عقولنا عندما نأخذ بعين الاعتبار السياق الزمني و الاجتماعي و الروحي الذي وُلد فيه هذا الإيقاع الردئ ، إنها طعنة متعددة الأبعاد بمباركة عربية ، و من الداخل الفلسطينيِّ ، للظاهرة الأردوغانية ، ظناً منهم أن صمت ” تركيا ” ، أو علي الأقل ، شحوب موقفها من هذه الحرب مختلة الموازين ، سوف يوقف زحف اسم ” أردوغان ” الأسطوري علي أفكار ممتلكاتهم الخاصة ، أعني نحن ، قطيعهم الذي يتوارثونه كلباً عن ظهر كلب ، حتي أن اسم ” أردوغان ” احتل مؤخراً مرتبة متقدمة بين أسماء المواليد في ” غزة ” ، و بسبب موقفه من الانقلاب في ” مصر ” بطبيعة الحال ، و هذا وهمٌ سوف يتبخر بالتأكيد ..
إنه عقاب لـ ” أردوغان ” قبل أن يكون عقاباً لـ ” حماس ” علي موقفها من الثورات العربية ، – أقول ” العربية ” بحكم شهرتها كمفردة لفظية دالة علي منطقة جغرافية لا إشارة إلي انتماءات و جذور – ، و بسبب موقفها من الثورات العربية ، خاصة ثورة ” سوريا ” ، خسرت “حماس ” ، للأسف ، ظهيراً صلباً ، كنت ، بصفة شخصية ، أتمني ، أكثر من أي وقت مضي ، أن يكسر هذه المرة حرارة جبهة ” غزة ” بتسخين جبهة ” جنوب لبنان ” ، أقصد ” حزب الله ” ، لكن ، يبدو أن الممسك بخيوط اللعبة يدرك جيداً أين يضع خطواته ، و متي يقرر سيولة المشهد من كل جانب ، لعل ذلك أقرب من قعر شيوخ القبيلة الحمقي ..
لا خوف علي ” غزة ” ، فلا تتباكوا من أجلها ، و لا شأن لكم بها ، إنها سوف تتجاوز العاصفة ، و لها السابقات ، و سوف ترمم جرحها ، و عما قليل ، سوف يشاهد العالم علي الشاشات السيد ” محمود عباس ” في ذكري تأسيس ” حركة فتح ” وهو يضع ” الكوفية ” علي كتفيه ، و من خلفه مفتاح كبير ، يهتف من فوق المنبر بأبيات درويش :
سجِّل .. أنا عربي / و رقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ / و أطفالي ثمانيةٌ و تاسعهُم / سيأتي بعدَ صيفْ / فهلْ تغضبْ ؟
سجِّلْ .. أنا عربي / وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ / و أطفالي ثمانيةٌ …….
الغريب أن العالم كله يعلم أن ابنيه ” ياسر ” و ” طارق ” من أثرياءه ، و أن كليهما باشر تربية كل ثروته الأسطورية من العمل مع اليهود ، أو مع الأمريكيين برعاية يهودية ، و يكفي أن تعلم أن من بين ممتلكاتهما ، ” سكاي للإعلان ” ، و شركة ” فيرست أوبشن بروجيكت كونستراكشن مانيجمينت ” ، و ” مجموعة فالكون القابضة ” التي تندرج تحتها ، ” فالكون للاستثمارات العامة ” وتعمل في مجال الاتصالات ، و ” فالكون إلكترو ميكانيك كونتراكتينج ” و مقرها ” عمان ” و تعمل في مجال المحطات و المولدات الكهربائية ، و ” فالكون جلوبل تلكوم ” ، و ” فالكون توباكو كومباني ” المتخصصة باستيراد كافة أنواع السجائر الإنجليزية ، و ” فيرست فالكون ” للهندسة المدنية و الكهربائية و المقاولات و التجارة و مقرها ” قطر ” ، و كذلك ” femc ” و مقرها ” دبي ” ، كل هذا غيض من فيض ، و عليه ، سجِّل ، هو عربي ، يعمل مع رفاق الكدح في محجر !
من الواضح لكل ذي عقل أننا بصدد الحديث عن إمبراطور ، أو تاجر ، لا صاحب قضية !
لا تعجبني نظرتهم إلي القطيع ، كيف يتصرفون بهذه السطحية في وقت لم يعد فيه شئ بحاجة إلي تأويل ، إن علاقة و لو سطحية لهذا الرجل بـ ” ياسر عرفات ” تدفع كل عاقل للشك في قضية ” ياسر عرفات ” نفسه ، و تطعن ظاهرة ” أبو عمار ” في الصميم ..
الحق بين ، كذلك الباطل ..
سيريان تلغراف | محمد رفعت الدومي
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)