فهم مغزى السياسة ومواقف الدول, يتطلب منا التنقيب عن ترابط الحوادث والأحداث. فالسياسة علم وليست تكهنات أو تخرصات, أو شعوذة وسحر, أو قراءة بالفنجان. فمواقف الدول تحكمها المصالح لا العواطف أو الشفقة على متسول يقرع عليهم الأبواب.
لا أريد رسم صورة جاهزة للقراء الكرام. ولكنني سأشاركهم جولة أفق بعض الأحداث. فربما نخرج بتصور واضح عن حقيقة بعض المواقف المعلنة أو تلك التي تحاك بعيداً عن أعين الناس.
- اجتاح ما يطلق عليه الربيع العربي تونس. فسارعت واشنطن وإعلامها ودول أوروبية وعربية بتأييد ودعم نظام زين العابدين بن علي. وعلا ضجيج مسؤوليهم بإشادتهم بزين العابدين وبنظامه. رغم تصنيف جماعات حقوق الإنسان الدولية وصحيفة الإيكو نومست نظامه بالاستبدادي وغير الديمقراطي, وانتقاد منظمة العفو الدولية وبيت الحرية والحماية الدولية المسؤولين التونسيين بعدم مراعاة المعايير الدولية للحقوق السياسية, وتدخلهم السافر في عمل المنظمات المحلية لحقوق الإنسان. والإيكو نومست صنفت تونس لسنة 2010م في الترتيب 144 من بين 167 بلدا شملتها الدراسة. ومن حيث حرية الصحافة فإنها صنفت تونس في المرتبة 143 من أصل 173 سنة 2008م. وكل ما فعله زين العابدين بن علي طيلة حكمه يتلخص: بالحفاظ على علمانية الدولة. وحظر حركة النهضة وحزب العمال الشيوعي التونسي نظراً لشعبيتهما العالية لدى الأوساط الدينية وخاصة العمالية. ومنعه صحيفة الموقع التي يديرها الحزب التقدمي والمعارض أحمد نجيب الشابي من الصدور مرات عدة. وطمسه قضية اغتيال شاب تونسي اخترق الشبكة المعلوماتية لقصر قرطاج واكتشف أسماء عملاء للموساد يعملون للتجسس على قادة منظمة التحرير الفلسطينية بتونس في الثمانينات, وادعت السلطات التونسية أنه قتل في حادث سيارة. وزين العابدين كان اكثر الرؤساء انفتاحاً على الغرب، وجعل تونس من أكثر الدول العربية المنفتحة على أوروبا. ومنع الحجاب الذي وصفه بالزي الطائفي. وأعاد الصوفية إلى البلاد، وسمح للكنائس بممارسة طقوسها. وفتح الباب للفساد ليستشري بكل شيء. حيث تحكم في الاقتصاد 3 عائلات “الطرابلسي” وبن عياد” وبشكل ضئيل “بن يدر” وجميعها متصاهرة, ولديها ميليشيات خاصة تتجسس من خلالها على المواطنين من المقاهي ومكتبات الجامعات إلى الاحياء ومؤسسات الدولة. وأصهار زين العابدين وأقارب زوجته يملكون شركات الاتصالات والإنترنت والسياحة ومساحات زراعية شاسعة وذلك لحكم البلاد اقتصادياً بقبضة من حديد. واغلق مكتب قناة الجزيرة, وحجب موقعي YouTube وdaily motion. وبدا تردد زين العابدين بن علي في بداية الربيع العربي واضحاً للعيان, ولكنه بعد ان حسم أمره أقال عدد من الوزراء بينهم وزير الداخلية. وزار البوعزيزي في المستشفى, ووعد بمعالجة المشاكل التي خرجت لأجلها المظاهرات. وأعلن عدم ترشحه لانتخابات الرئاسة عام 2014م. فتحول تأييد الدول والانظمة له بلمح البصر إلى تأييد مطالب المتظاهرين بإزاحته وتحميله المسؤولية. وفجأة نقلت وسائط الاعلام خبر هروبه وهبوط طائرته في جدة.
- وحال مصر كحال تونس. فحينما أجتاح الربيع العربي مصر, صلب مبارك موقفه في البداية. ودعم محور قطر تركيا الربيع العربي في مصر كما دعمه في تونس من قبل. وسارعت واشنطن والدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليج عدا قطر لدعم وتأييد نظام الرئيس مبارك رغم الانتقادات الموجهة إليه: بإصراره على التمسك بالحكم, وتوريثه الحكم لنجله من بعده. وكذلك عدم تحقيق ما وعد به من تحقيق الاستقرار الاقتصادي, وحماية محدودي الدخل. ومعاناة الاقتصاد من مشاكل كبيرة رغم تبنيه عمليات الخصخصة التي ثبت عدم جدوها وإهدارها للمال العام. وفشله بكبح نسبة البطالة والتي ارتفعت معدلاتها بنسبة كبيرة. إضافة إلى تغاضيه عن تحكم عدد قليل من أصحاب رؤوس الأموال في مقدورات مصر. مما أدى إلى استشراء الفساد. كما أن عصره شهد تزايد الإضرابات العمالية, وانتشار ظاهرة التعذيب في مراكز الشرطة. واستفحال ظاهرة العنف ضد المرأة. وازدياد عدد المعتقلين في السجون، إذ وصل عدد المعتقلين السياسيين إلى ما يقرب من ثمانية عشر ألف معتقل إداري. وتحكم المخابرات بالحكم حيث وصل عدد العاملين في أجهزة الأمن المصرية 1.7 مليون ضابط وجندي ومخبر. وهو ما يعني أن هناك عسكريا لكل 47 مواطناً مصرياً. وفي عصره تزايد عدد الفقراء. حيث أشار تقرير نشر في شباط 2008م أن 11 مليون مواطن يعيشون في 961 منطقة عشوائية. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية على إثر بعض السياسات الاقتصادية بسبب تحكم 2% من المصريين في 40% من جملة الدخل القومي. وارتفعت معدلات التضخم بصورة ضخمة, وتضاعفت الأسعار بسبب تحرير سعر الدولار. وجعل قوانين الطوارئ سارية طيلة فترة حكمه. وعارض مشروع بناء جسر بري يربط مصر والسعودية عبر جزيرة تيران في خليج العقبة بين رأس حميد في تبوك شمال السعودية، ومنتجع شرم الشيخ المصري لتسيير حركة تنقل الحجاج ونقل البضائع بين البلدين حتي لا يؤثر علي المنتجعات السياحية في مدينة شرم الشيخ.وصنفته مجلة باردي الأمريكية بالديكتاتور رقم 20 الأسوأ على مستوى العالم لعام 2009م, وصنفته بالديكتاتور رقم 17لعام 2008معلى مستوى العالم. وصنفته مجلة فورين بوليسي الأمريكية في المركز الخامس عشر في قائمة أسوء السيئين لعام 2010م, حيث تعتبره فورين بوليسي حاكم مطلق مستبد يعاني داء العظمة وشغله الشاغل الوحيد أن يستمر في منصبه. وحين فشلت اجهزة الأمن بقمع المتظاهرين, ورفض الجيش أوامره بقمع المتظاهرين, عين نائباً له هو اللواء عمر سليمان. وأصدر مجموعة قرارات وصفها بإصلاحات. وأعلن عن عدم ترشحه لفترة رئاسية جديدة. وبعد مماطلة لثمانية عشر يوماً تنحى وسلم الحكم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية. حينها وعلى حين غرة تحول الدعم والتأييد من واشنطن وحلفائها لمبارك ونظامه, إلى دعم وتأييد للمتظاهرين, ومطالبتهم برحيل مبارك.
والأسئلة التي ستبقى بلا جواب لعقود, لعلاقتها بالأمن القومي الاميركي, تتلخص بما يلي:
- هل زين العابدين هرب كما جاء في الأخبار, أو رُحل رغماً عنه بأمر من واشنطن وباريس, أو أن بعض المسؤولين في نظامه هم من انقلبوا عليه وأخرجوه عنوة؟
- ولماذا سحبت واشنطن ودول غربية وعربية تأييدهم لكل من زين العابدين ومبارك فور اعلان كل منهما عدم ترشيح نفسه لولاية جديدة, وقطعه وعود بالإصلاح؟
- وهل ركوب واشنطن موجة الثورة إنما كان هدفه التفتيش عن حاكم جديد يتابع مسيرة تأمين اهدافهم ومصالحهم السرية والمعلنة, ومتابعة محاربة التيارات الاسلامية؟
- وهل حجم أعداد المتظاهرين في المدن والقرىشش هو من أقنعهم بأن تعويم كل من زين العابدين ومحمد حسني مبارك بات مستحيل, فقرروا التضحية بهما لكسب ود المتظاهرين. وترك زمام قيادة الوضع التونسي لمحور تركيا وقطر الداعم للربيع العربي, وتوجيه هذا المحور من بعيد, فتركيا عضو في حلف الناتو وقطر قاعدة عسكرية امريكية في الخليج. وترك زمام القضاء على جماعة الإخوان المسلمين لمحور الرياض؟
- وما هو سر ازدواجية كل من محور الرياض ومحور قطر وتركيا. حيث يتصارعان في مصر وليبيا, ويحتدم الخلاف بينهما في أكثر من مكان. ومختلفان حول الوضع الفلسطيني حيث تدعم قطر حركة حماس بينما تدعم الرياض الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ومتفقان في البحرين وسوريا ولبنان, ومتفقان في التصدي لأهداف إيران الصفوية, وفي نفس الوقت يتسابق زعماء المحورين لزيارة إيران والتودد إليها؟
- وهل أرادت صحيفة الحياة اللندنية تشويه صورة الربيع العربي وتجريم جماعة الإخوان المسلمين و قطر وأروغان واتهامها بالعمالة لواشنطن من خلال نشرها حواراً أجرته مع رجل مبارك والمرشح الخاسر في الانتخابات المصرية أحمد شفيق, ونشرته بوابة الشروق؟. وأهم ما جاء في هذا الحوار, قول احمد شفيق: الرئيس السابق محمد حسني مبارك، كان يعتقد أنه يستطيع الاقامة في شرم الشيخ، ومن دون التخلي تماماً عن الحكم. إلا أنه عندما قالت أميركا، أن عليه التخلي عن الحكم الآن ، فإن موقفها أدى إلى الإسراع في تنفيذ رغبات المصريين برحيله. وأن الربيع العربي خطة إخوانية مغذاة من الخارج. وقطر كانت اليد الرئيسية، وليس مؤكداً أن تكون تركيا، وقد نجح الإخوان في أن يخدعوا بعض الدول وبينها واشنطن. وقطر دعمت الإخوان وليس الثورة، ومازالت تدعمهم لتتحكم في مصر، والتي هي عقدة قطر. وقد يكون رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، ممن ساهموا في التخطيط للربيع العربي؛ لأنه صاحب مصلحة فيما حدث. وجماعة الإخوان المسلمين، تلقت فيضان أموال من الخارج، خصوصًا من قطر، وهي العمود الفقري للإخوان ماليًا. وحصلوا أيضاً على أموال من غيرها, لكنها تنفق عليهم منذ أعلنوا خوض الانتخابات في مصر. وهناك مبلغ نريد أن نعرف قصته، وهو 50 مليوناً من الحكومة الأمريكية.
- ولماذا تدعم واشنطن كل من محور الرياض ومحور تركيا وقطر, رغم أن محور قطر تركيا يدعم جماعة الإخوان المسلمين بينما يحاربهم ويتهمهم محور الرياض بالإرهاب؟
- ولماذا هذه الحرب الاعلامية المستعرة والضروس بين وسائط إعلام كل من المحورين وخاصة بين فضائية العربية بوق محور الرياض وفضائية الجزيرة بوق محور تركيا قطر؟
- وهل سيتكرر سيناريوا ما حصل في مصر على يد الفريق السيسي في ليبيا وتونس؟
- ولماذا لا تجرأ قطر وتركيا على انتقاد دعم الرياض وواشنطن للنظام الجديد في مصر وللأعمال العسكرية التي يقودها اللواء حفتر لإجهاض ثورة الربيع العربي في ليبيا, بينما يكتفيان بالتهجم على النظام الجديد في مصر ومناصبة الفريق السيسي العداء؟
- ولماذا تكافئ قطر واشنطن على موقفها المنحاز لمحور الرياض بجهودها الحثيثة لمفاوضة وإقناع حركة طالبان على إطلاق سراح المعتقلين لديهاالجنود الأميركيين والأوروبيين؟
- وهل الهدف من تمزيق كل معارضة من المعارضات العربية والاسلامية إلى معتدلة و متشددة وأصولية وأجانب تسهيل مهمة القضاء على التنظيمات الاسلامية؟
- ولماذا لم يتفاقم الصراع الدموي في اليمن بعد انتصار الربيع العربي في اليمن بعد موافقة الرئيس علي صالح بالمبادرة الخليجية وتنازله عن الحكم لنائبه؟
من يدقق المعطيات السابقة أعلاه يستنتج: بأن حرية وحقوق الانسان, وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية في المجتمعات والدول العربية والاسلامية ليست هدف واشنطن وحلفائها وعشاقها ومحبيها على الاطلاق. فالصراعات تزداد حدة في كل من مصر والسودان وليبيا وتونس واليمن وسوريا والعراق ولبنان والصومال. وكل ما يهمهم: ضمان بقاء وأمن ومصالح إسرائيل في الدرجة الأولى. وحماية مصالح واشنطن وحلفائها وحلف الناتو ثانياً. ومحاربة العروبة والاسلام بذريعة محاربة الإرهاب بأنظمة وقوى وإمكانيات عربية وإسلامية ثالثاً. وضمان المحافظة على أنظمة وحكومات وحكام وعروش رابعاً. ومن بعدهم فليكن الطوفان. والمحزن تهافت البعض لكسب ود حكام واشنطن وحلفائها والذين هم سبب ما نشكو منه.
سيريان تلغراف | العميد المتقاعد برهان إبراهيم كريم
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)