Site icon سيريان تلغراف

اندفاعة “أردوغانية ـ جهادية” لإسقاط الانتخابات السورية مبكراً

لم تبلغ اندفاعة الهجوم التركي على حلب، منتهاها. أغراضها العسكرية لم تتحقق بعد، لكن الأكثر أهمية أن الهدف السياسي لم يُنجز حتى الآن، ما يثير مخاوف من ان موجات المسلحين، المتعددي الولاءات والانتماءات والمجتمعين بخيط المصالح العليا لتركيا، لن تتوقف قريبا على المدينة المنكوبة بالموت منذ أكثر من 600 يوم.

وهي ليست المرة الاولى التي تترابط فيها التطورات الميدانية، أو تتحرك فيها خطوط الجبهات، مع الرهانات السياسية، بل يتكاملان أحيانا، مثلما جرى خلال جولات التفاوض في جنيف الاول والثاني. وبهذا المعنى، فإن السؤال يصبح مشروعاً عن الهدف من سلسلة الهجمات التي تشهدها حلب بشكل لافت ودموي خلال الأسابيع الماضية.

ماذا لتركيا في حلب؟ ولماذا، برغم الأكلاف العالية في صفوف المسلحين المهاجمين ـ والمدنيين طبعاً ـ هذه الرغبة الحثيثة في محاولة الاستيلاء عليها في هذا التوقيت؟ صحيح أن الهجمة التركية على سوريا، لم تتبدل منذ بدايات الحرب، سوى من خلال ما تتطلبه المعركة ذاتها، إلا ان الصحيح ايضا أن ما بدا وكأنه انكفاء في نهاية العام 2013، اتضح أنه مؤقت، ومرتبط على ما يبدو بثلاثة أمور أساسية: اولا تعثر حسابات البيدر السوري، وثانيا حسابات الحكومة الأردوغانية داخليا، وثالثا مراجعة الحسابات الاقليمية وتبدلاتها.

ويبدو أن تزامن موعد الهجومين الكبيرين، على حلب وكسب (في ريف اللاذقية)، مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية التركية، دفع الكثيرين وقتها الى ربطهما بحسابات سياسية داخلية لرجب طيب أردوغان، وهو ربط تبين أنه غير دقيق، اذ ان الرجل بدا، كما برهنت نتائج صناديق الاقتراع، أنه ما زال يتمتع بتأييد شعبي قوي، سيشجعه لاحقا للتقدم كمرشح لانتخابات الرئاسة.

اذاً، لماذا الاندفاعة العسكرية الكبرى نحو مدينة حلب وما هي مراميها؟ واذا كان الهدف العسكري الجلي هو التصدي لهجوم القضم الذي يقوم به الجيش السوري منذ شهور، وإعادة إحكام الطوق حول المدينة، واختراقها، فإن المكسب السياسي الوحيد الذي يلوح أمامنا يصير مرتبطا باستحقاقات الانتخابات الرئاسية السورية، خاصة أن أنقرة، منذ الشهور الاولى للأزمة السورية، تركز على فكرة أساسية: التشكيك في شرعية النظام السوري، فكيف إذاً سيحل هذا الاستحقاق، وتقف مكتوفة الأيدي سامحة لهذا النظام نفسه بادعاء تعزيز شرعيته حتى وإن أُقصيت مناطق بأكملها من عملية الاقتراع؟!

ومثلما كان اقتحام حلب في تموز العام 2012 التطبيق الأولي لمفاوضات جنيف الاولى الهادفة الى إضعاف النظام السوري، فإن الاستيلاء على حلب الآن، بعد تعثر «جنيف2»، يصبح مطلباً تركياً ضرورياً وملحاً. مهتمة أنقرة بتبديد الصورة الملتصقة بها بأنها قادرة فقط على التخريب إقليميا، لكنها عاجزة عن تبديل المشهد.

يقول مصدر مطلع على التطورات العسكرية في الشمال السوري لـ«السفير» إن الكثير يمكن فهمه من مسار السلوك التركي اذا أخذ بالاعتبار اهتمام أنقرة الجلي بريف حلب، وريف ادلب وريف اللاذقية وجزء من ريف الحسكة. ففي هذه المناطق الشاسعة والمتاخمة للحدود التركية، خليط «القاعدة» بوجهيها المتنازعين، أي «النصرة» و«داعش»، بالإضافة الى «أحرار الشام»، والحضور الارمني والكردي.

إلا أن المعنى السياسي للاندفاعة التركية الجديدة، لا يمكن أن يغيب. والملاحظ أن الخطاب الأردوغاني بشأن الحرب السورية لم يتبدل، والخطير أنه استمر بما يعكس استمرار الشراكة السعودية ـ القطرية ـ التركية على الرغم من الخلاف الإقليمي الحاد بين هذه الأطراف الثلاثة بشأن النفوذ «الاخواني» مثلما جرى في مصر مثلا.

ويعني ذلك في ما يعنيه، أن الأميركي نجح على ما يبدو في ضبط إيقاع الخلافات بين الدول الثلاث (على غرار ما يجري من محاولات صلح ولو متعثرة بين الدوحة والرياض) بعد زيارة الرئيس الاميركي باراك أوباما الى السعودية في آذار الماضي. وبمعنى آخر، فإن خلافات الدول الثلاث، بإمكانها في المدى المنظور، تحقيق التقاء المصالح على ساحة الدم السوري، يمكن ترجمته بمحاولة انتزاع حلب من قبضة الدولة السورية، وإخراجها سياسيا من المشهد الانتخابي الذي قد يقتصر عندها على العاصمة دمشق ومعظم مناطق حمص واللاذقية وطرطوس، بالإضافة الى السويداء.

واذا صحت التقديرات الرائجة مؤخرا بأن المملكة الأردنية دفعت باتجاه إبعاد خيار فتح الجبهة الجنوبية عن عاتقها، وإطلاق هجوم شامل من الحدود الاردنية باتجاه دمشق لما قد يحمله ذلك من مخاطر على استقرارها الداخلي، فإن فرضية خيار حلب، تصبح أكثر ترجيحاً. ويصبح الرهان على الساحة التركية الخلفية هو الأكثر ترجيحا. وكانت «السفير» قد نقلت منذ يومين عن مسؤول سوري رفيع المستوى قوله إن الهجوم على حلب يهدف الى عرقلة العملية الانتخابية في حزيران المقبل، مشيرة الى ان تحليلات السلطة تستند الى عاملين، الأول هو أن «الوزن السكاني الأكبر في المدينة» يقع تحت سيطرة النظام، والثاني لرمزية حلب التاريخية والاقتصادية والاجتماعية. ونقلت «السفير» (راجع تقرير الزميل زياد حيدر) عن المصدر قوله إن الإسناد الخلفي اللوجستي لما يجري في حلب، تركي أساساً، ويجسد الرغبة التركية المعلنة في إعاقة هذه الانتخابات.

ويقول المصدر المطلع على تطورات المشهد العسكري إن هناك استماتة تركية من أجل تغيير المشهد في حلب، من خلال الجبهات التي جرت محاولات لاقتحامها:

1ـ من الراموسة لقطع خط الإمداد الغذائي والعسكري من بلدة خناصر الاستراتيجية الى حلب.

2 ـ من الليرمون باتجاه الزهراء وصولا الى مقر المخابرات الجوية، في الأحياء الشمالية الغربية، وهو مقر قال مسؤول سوري حوله إن سقوطه يعني سقوط حلب استراتيجيا.

3 ـ من حلب القديمة الى سوق الزهراوي لمحاولة قطع الطريق على الجيش في قلعة حلب.

4 ـ من بستان الباشا في شمال حلب نحو حي الميدان وسليمان الحلبي.

5 ـ ثكنة هنانو التي تطل على الأحياء الشمالية لحلب وعلى طريق إمداد رئيسي للمعارضة من الشمال السوري والتي تعرضت للهجوم الأكبر في عيد الجلاء.

اللافت كما لاحظ المصدر والخبراء المتابعون للمشهد العسكري، الظهور القوي للقيادات والفصائل الآسيوية، وتحديدا الشيشانية والداغستانية، في قيادة وتنفيذ الهجمات المتتالية التي نفذتها فصائل مختلفة على العاصمة الثانية لسوريا، وهي قيادات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاستخبارات التركية منذ أيام حرب الشيشان الاولى في التسعينيات، ويصير أمراً لافتاً للنظر استحضارها من مختلف الجبهات السورية، للمشاركة في غزوة حلب.

ويقول المصدر إن الأتراك أدركوا أهمية سياسة القضم التي يقوم بها الجيش السوري منذ شهور في محيط حلب، خصوصا منذ استعادة السفيرة، على المدخل الشرقي للمدينة، وصولا الى تحرير مقر «اللواء 80» حتى حي الشيخ نجار وتلة الغالي، ما جعل الجيش يتموضع على بعد كيلومترين فقط من سجن حلب المركزي المحاصر. كما حقق الجيش تقدماً مهماً من خلال دخول قلب المنطقة الصناعية واستعادة منطقة المطاحن نحو معمل الزعتر الحلبي، والزحف الى حي الشيخ سعيد باتجاه منطقة الزيات.

وتشير الاندفاعة «الجهادية» للشيشان والداغستانيين وغيرهم من إسلاميي القوقاز الى إدراك تركي لخطورة الموقف ودخول أنقرة مجددا بزخم أكبر على معادلة التوازنات العسكرية في الحرب السورية. ومن بين من جرى رصد مشاركتهم الفاعلة في هجمات حلب المتتابعة، ألوية وكتائب تركمانية، تركية الولاء بالمطلق، ومنها «كتيبة المنتصر بالله» و«لواء السلطان مراد» و«لواء السلطان محمد الفاتح».

إلا أن الأبرز في التنظيمات والفصائل المشاركة، «جيش المهاجرين والأنصار» بقيادة صلاح الدين الشيشاني، وهو رئيس غرفة العملية العسكرية في حلب، ونائبه أبو أسماء الداغستاني، بالإضافة الى «كتيبة الإمام البخاري» (مقاتلون أوزبك) والتي قتل قائدها في المعارك الأخيرة، ويدعى محمد الطشقندي.

وبالإضافة الى هؤلاء، هناك «جبهة النصرة» ممثلة بجماعة سيف الله الشيشاني الذي قتل منذ شهرين وأعلنت كتيبته «جيش الخلافة»، الولاء للجبهة، بما كان يُعرف عنه بعلاقة قديمة مع الاستخبارات التركية.

ما يجري في حلب وفق هذا المشهد، إعادة توجيه للعملية العسكرية، وفق الهدف السياسي المركزي المنشود الآن، باستهداف الانتخابات السورية لإجهاضها من مراميها، حتى ولو كانت مجرد بارقة أمل في نفق حمام الدم السوري، بعد تعثر مفاوضات «جنيف 2» وجمود مسار الحلول السياسية البديلة، بعد تقدم المشهد الأوكراني على سلّم الاهتمامات الأميركية والروسية.

وبهذا المعنى، فإن المعركة الدائرة الآن على الارض، عنوانها الأساسي، الى جانب كسر هيبة الدولة السورية في حلب وريفها، الرد على قرب اكتمال تأمين المنطقة الوسطى، ووأد العملية الانتخابية والبناء على ذلك لاحقا باستكمال حملة التشكيك بشرعية الحكم، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بكل فتاوى «الجهاديين» ومناورات السياسة ومؤامرات الامن، لضرب الاماكن الآمنة نسبيا كما جرى في حمص قبل يومين، وتفعيل سلاح الهاون على أحياء دمشق، من منطقتي المليحة وجوبر، والاستعانة بين هذه وتلك، بالتجارب الأفغانية والعراقية باللعب على هواجس الناخبين من الانتحاريين، حتى تواصل دورة الدم السوري دورتها.

سيريان تلغراف | خليل حرب – السفير

Exit mobile version