الحديث اليوم هو عن تلك الحالة الفريدة التي تتحول معها أهداف مجموعة بشرية إلى ” أسطورة على أرض الواقع “. فمعارك الميدان في سوريا تفرض على أدمغتنا نبش خبايا مثيلاتها وإستحضار أرواح من كتب يوماً المعقول وغير المعقول عنها ، إنه “عالم الواقع الأسطوري، والأسطورة الواقعية” . أسبابٌ وعوامل وحقائق عدة عدة تتزايد معها أعداد من يؤمن بهذه القاعدة أو هذا اليقين ، أهمها أن صمود هذا الوطن على مدار عمر الحرب عليه متسلحاً بثنائية الشعب والجيش – التي شكلت جدار الإستناد لقيادته – ، كان ولا زال، معاشاً وملموساً ومؤرخاً ومسطراً في دفاتر أمجاد الأمة السورية بشكل باتت العين معه تعشق مفردات الأرض، – جاهلٌ هو من يظن أن الأرض خرساء لا تجيد النطق ، وجاهلٌ من يعتقد أنها اليوم في سورية تتكلم العربية .. وحسب – ، هي تستعيد في أيامنا ملكيتها لكل حروف الهجاء التي سرقت منها ، لكل اللغات التي اغتيلت على على مرأى سمائها ، إنه الواقع الذي بات السوري معه يعانق لغة الخبر ورسائل الميدان، لحظةً تمسك بحواف رداء غير لحظة . و الحرب على سورية تدور ذات الوقت في فضاءات و إطار اللامسبوق واللامعقول واللامنطقي ، لجهة واقعةٍ لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.. حربٌ بين دولة وما يقرب من مائة دولة، تدعم وتوآزر وتسلح وتدرب وتقود قطعاناً جهادية من شتى أصقاع الأرض تهاجر إلى جنان الله من خلال ولوج بوابات و ساحات الوطن السوري ، يتصارع هنا المنطق واللامنطق، ليعلن المنطق -بدايةً- هزيمته ورضوخه واستسلامه لجحافل اللامنطق لجهة تأثير ونفوذ من صادر الإسلام وإدعى ملكية صكوك غفرانٍ جديدة بحلةٍ إسلامية، و تاجر بآيات الله وأقوال رسوله، وصادر ما يفترض أنه الرسالة السمحة للدين الإسلامي، وتفنن في اللعب على تعاليمه وتحريف آياته وأحاديثه، ونجح في إستعمار وإستيطان جماجم من يفترض أنهم بشرٌ عاقلون وحولهم في غفلةٍ من العقل إلى وحوشٍ في هيئة بشر. لكن منطق حضارة هذه الأرض وتاريخها سرعان ما أتى رده وجوابه، ساعة أحيا المنطق السوري عديد ما تم دفنه من أساطير الأجداد وأجدادهم، ووهب الحاضر عقداً فريداً جديداً أساسه صمودٌ أسطوري لشعبٍ رفع أجداده الغطاء عن “النصب الأول للحضارة”، وجيشٌ لا يقبل بغير النصر قلادةً يزين بها صدر الزمان. من هذه البوابة نحن اليوم مدعوون لرحلة قصيرة نلقي التحية من خلالها على بعض ما يتحد فيه الواقع مع الأساطير في المشهد السوري ..
من المنار إلى المنار .. هذا هو عدوهم.
في إستذكارٍ سريع لأعداء الوطن السوري ما قبل جلاء المستعمر الفرنسي ومقارنةٍ بسيطة خاطفة بأعداء غزاة الأرض السورية في أيامنا هذه ، يلحظ المنطق مناجاة أرواح ضحايا من استشهدوا على أرض الوطن السوري آنذاك من المقاومين الأبطال الأشاوس والمدنيين الأبرياء والنخب الفكرية والسياسية، لأرواح أحفادهم الذين يرسمون اليوم لوحات من الملاحم البطولية الأسطورية، فكما لم ينس الوعي الجمعي السوري، ولن يفعل، الشهيد يوسف العظمة ورفاقه الأحرار ، كذا لن يفعل ذات الوعي يوماً فينسى خنساء حاضرنا “أم يوسف” وأبناءها الأربعة الشهداء الذين بذلوا دماءهم في محراب الوطن. و كما لا زال حاضراً في الوجدان والذاكرة عطر شهداء الإستقلال، كذا لن يغيب يوماً عن ذات الوجدان والذاكرة ضوع دماء شهداء مقاومة الجحافل والقطعان التي تغزو سورية من بوابات الحرية والديمقراطية متسلحةً بالجهل والبدائية والهمجية والدموية والطائفية . انظروا لمشاهد غزوهم، فمن سلوكهم و أفعالهم تعرفونهم ، واستمعوا إلى لغات جنونهم، فمن مفرداتهم تقرؤونهم. وطالعوا قائمة ضحاياهم من الشهداء، تظهر لكم حقيقتهم. في الأمس ردت “منار باب توما الدمشقية” على صدى رسائل الشهادة من “منار المقاومة اللبنانية” ، فكانت لقيا ضحايا الطفولة و العلم والمعرفة والحقيقة، وكان عناق أرواح من سقطوا جراء القصف الهمجي التتاري لمدرسة المنار للأطفال لأرواح الحقيقة والكلمة من فريق فضائية إعلام المقاومة “حمزة ومحمد وحليم”، إنها أسماءٌ لونت بدمائها لوحات النصر، و حفرت حروفه على جدران الذاكرة وتربعت في صالات نبلاء أرشيف الزمان والتاريخ . هل ينسى السوريون الشهيد نضال جنود ومن تبعه على درب الشهادة من المدنيين الأبرياء ، والشهيد العميد تلاوي وابنه وإبن أخيه و رفاقه من أبطال الجيش السوري ، و الدفاع الوطني، و شهيد المحراب العلامة البوطي و من سبقه ولحق به من رجالات الدين الإسلامي والمسيحي؟ يجيب السوريون .. لا ورب سورية .. لن نفعل .. .
الأسطورة السورية ساعة تتحول إلى حقيقة.
في سالف العصر والزمان ، كان الشائع عن الأسطورة ولا زال في يقين بعض الشعوب أنها حقيقة مقدسة لا تقبل النقاش أو الجدل ، إلى أن تحولت مع تطور الوعي والإدراك البشريين إلى أكذوبة ، أو محض خيال أو خرافة “وهنالك فارق بين – قداسة الأسطورة المشفوعة بزمن وتاريخ وبين الخرافة المفتوحة على عواهن ملكات كذب من يتناقلها “. قد يكون ما كان حينها،أي ” في مرحلة التطور”، صحيحاً بالمجمل ، لكن ذاك الصحيح فقد صحته و ضاعت حججه وبراهينه على الأرض السورية . اليوم يتفوق المشهد السوري على عديد ما اختزنته ذاكرة الزمان عن أساطير الإغريق والرومان ، تلك التي بقيت بحسب معتقد غالبية البشر تدور في فلك الخيال وتحلق في سماء الأمنية والتصور وما لامست الأرض بقدميها يوماً . فيما يتحول اللامعقول في سورية إلى واقعٍ معاش ، وتتحول الأمنية إلى حقيقة تعانق الروح وتسري نبضاً في شرايين القلب ، وتمسي حكايا الخيال جزءًا من تفاصيل أيام السوريين ، وزخات من رصاص بنادق أبطال جيشهم . في سوريا ودوناً عن كل بقاع الأرض يتفوق الجيش في حربه على المجموعات المسلحة التي تنتظم على شكل عصابات ، فما عرفناه في تاريخنا المعاصر من شبيهات الحروب ، من كوريا وحرب العصابات التي قادتها مقاومتها ضد الإحتلال الياباني حتى هزيمته، إلى فيتنام و ملاحم إفتداء أبنائها لإسمها وترابها في وجه الغول الأمريكي الغازي و تمريغ أنفه في مستنقعاتها ووحولها قبل طرده، إلى الجزائر التي قدم شعبها ما يزيد على مليون شهيد في محراب الوطن وكرمى لكرامته وعزه وشرفه واستقلاله الذي جاء ثمرة لهزيمة المحتل الفرنسي ، إلى جنوب لبنان ومقاومته التي زادت الشرف شرفاً ساعة أضاءت شموع الأمل في أرواح من غزت عتمة اليأس نفوسهم، ساعة سجلت تاريخاً جديداً لمرحلةٍ جديدة من الصراع مع العدو الصهيوني، مرحلة الفخر والفخار بقائمة إنتصاراتها عليه، انتصاراتٌ كان رحمها شراكةٌ مع الجيش السوري الذي كان على مدار سنين حربها مع العدو، مقاتلاً مغواراً في العلن حيناً، و شريكاً أساسياً في صناعة النصر، يقبع لضروراتٍ واعتباراتٍ منطقية في الظل، في غير حين، إعتباراتٌ هزمتها جرأة وتحدي الرئيس الأسد ساعة أعلن عنها وكشف بعض تفاصيلها للكون بأسره، بعد أن باتت كل الحروب تشن وتدار على المكشوف .. .
ماذا تقول المعلومات عن سورية وماذا يقول اليقين ؟
نجح أبطال الأمثلة والتجارب السابقة في ميدان المقاومة في بلوغ أهدافهم، و إنتصر فيها من إتبع التكتيكات العسكرية لحرب العصابات وهزمت الجيوش النظامية وولت الأدبار. الفارق الجوهري بين ما كان حينها و ما يدور اليوم في سوريا ، أن من كان يشن حروب العصابات هم أصحاب الأرض ، العاشقين لها ، المدافعين عن ترابها . فيما كانت الجيوش غازية ومحتلة، لا تربطها بالأرض مشاعر أو ذكريات ولا فرق عندها شكل مستقبلها وكيانها و وجودها. إنعكست الآية إذن في سوريا، فكان لا بد أن تنعكس معها مفرداتها و مشاهدها وحكاياها، و لن تجد مناصاً نهاياتها من مسايرة الإختلاف الجوهري في شكل و مفردات هذه الآية . لهذا نقول اليوم : أن لا مكان للصعاليك والأقزام في منازلات الجبابرة و أن ما من قلاع أو سدود ستحمي عفاريت الرمال أو أشلاء شبه العقل الاخواني الوهابي الصهيوني الأردوغاني المتهاوي على تلال القلمون من تذوق طعم الهزائم تلو الهزائم ، التلال التي باتت البلدات الغافيات في حضنها تستعد لإلقاء التحايا على الزبداني وتقديم التبريكات بنصرها المرتقب ، وعودتها معقمة و طاهرة إلى حضن الوطن. ودمشق لا زالت تحتضن قاسيونها الجاثم على صدور غزاتها ، قاسيونها الذي باتت صخوره تسخر من نكات غزوات دمشق التي ما عرفت إنتهاءً ولا عرف أصحابها طريقاً ولا درباً ولا نفقاً ولا أنبوب صرفٍ صحي يوصلهم إلى محيط قلبها وسفح قاسيونها. و حلب تعلن للكون كل صباح أنها كما أبداً، كما قلعتها، صامدة في وجه أحفاد “الجاهل أبي جهل” وآكلة الأكباد “هند بن عتبة” ، وأنها ستبقى كما أبداً سداً منيعاً في وجه أطماع العثمانية الجديدة بقيادة “الواهم أردوغان”. وحمص القديمة تبعث برسائل من دمٍ ونار، رسائل تبشر بقرب إعلانها مصفاةً لتكرير الدم السوري ورمي شوائبه في محارق خزاناتها، وقرب الإشهار الرسمي لطريقيها نحو العاصمة ونحو الساحل .. طرقاً للسلامة والأمان . وسفوح كسب ووديانها تجمع الأحطاب التي سيكتوي بجمرها قطيع “أبو مسلم الشيشاني”، و سواعد جيش الوطن ومن يردفه من المقاتلين تشارك من هناك بحصتها من مفردات الإلياذة السورية. هذا كله من منبع المعلومات الوافدة من الميدان، المعلومات المشفوعة بالصوت والصورة،”كما في تحرير بلدات القلمون الواحدة تلو الأخرى وآخرها معلولا والصخرة و جبعدين وعسال الورد” . وأما في اليقين، فإن يقين معظم السوريين بات يعلن أن مقاومة وصمود الوطن السوري في وجه غزاته إنما يشكل أسطورة الواقع لجلاءٍ عظيمٍ قادم .. وأكيد . جلاءٌ سيبني أساس سورية الغد والمستقبل . لا منافذ للهروب ولا أطواقٌ للنجاة يمكن لها أن تنقذ تتار هذا العصر من أبابيل الطيور المحاربة ساعة تعزف طبول الحرب أنشودة المصير .. ساعة يدندن السلاح للسلاح ، وتغني الجبال للأبطال ، و تهطل السماء مجداً يغسل جباه من قدسوا بعد الرب وطناً وحفظوا بعد آيات كتبهم المقدسة .. نشيد حماة الديار .
سيريان تلغراف | نمير سعد
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)