في العموم .. أول ما يتبادر للذهن على وقع الأحداث المفصلية هو الكتابة عنها وفيها لمن يهوى الكتابة ، البعض يخوض فيها وحسب ، البعض الآخر يعود خطفاً لما قبلها ، لكن الأغلبية تفعل .. أي تكتب عنها ، خلافاً لعادتي و إنسجامي مع الكل فإنني اليوم سوف أبتعد عنها قليلاً وأنظر إليها عن بعد ، خصوصاً أن عامل الزمن قد ألقى التحية علي ومضى ، لهذا فأنا سوف أكتب .. في العموم ، ولها في العموم لا شك نصيب . إنه الإتفاق التاريخي حسب من أنجزوه ومن ستعود نتائجه المستقبلية بالفائدة عليهم ، كما بحسب محاكمات العقل والمنطق لتفاصيله ونتائجه ، لكنه ذات الإتفاق ، يتحول بقدرة العداء والبغض والحقد والعمالة والطائفية في نظر النظام السعودي ، حاله في هذا الإطار حال توأمه ” الإسرائيلي ” إلى خطأ تاريخي جسيم و خسارة تاريخية كبيرة ، وخيانه تاريخية من قبل من إعتاد بيع الحلفاء وكان نصيبهم أن حالفوه . السؤال الأهم قبل التوسع في الحديث .. هل كان الأمريكي مخيراً أم مجبراً للمسارعة في إتمام الصفقة ؟ ، المنطق يقول أن القيادة الإيرانية قامت بالتأكيد على مدار السنوات العشر الماضية باللعب بذكاء وحنكة على عامل الزمن ، ذكاءٌ وحنكة يحاكيان عبقرية السياسة السورية في هذا الخصوص . وهي القيادة التي إنتصرت في كل حروبها سيما الباردة منها عبر إتقان اللعب على حافة الزمن والوقت … .
ما كتب عن الإتفاق خلال اليومين الماضيين كان فرزاً واضحاً للأقلام وتبياناً لألوانها وكشفاً واضحاً لهوية أصحابها ، تماماً كما كانت المئات من المقالات خلال سنوات الحرب على سوريا فرزاً واضحاً لفريقين إختار الأول إنتماءً للدولار فيما لم يحد الثاني عن نهج المقاومة والمبادئ كخيار . تخطر في بالي عبارة كتبتها ذات مرة في سياق إحدى مقالاتي ، إختصرت الأمر حينها بالقول : قل لي ماذا تكتب أقل لك من أنت ، وما هي هويتك ، وولاءك ، وأقرأ ما يدور في خلدك ساعة تضع رأسك على الوسادة ، وأعرف تفاصيل أحلامك … .
كنت قد كتبت في آخر مقالاتي أن لا مكان للأقزام في التسويات التي ينجزها العمالقة ، وأن لا رأي للصغار في تفاهمات و قرارات الكبار ، وأن لا دور لأشباه الدول وأشباه الرجال فيما تتفق حوله قيادات الدول الكبرى . ما جرى في جنيف مؤخراً كان دليلاً إضافياً على ما ذكرت سابقاً من أن الوطن السوري يتحول اليوم رغم نازفات جراحاته وعظمة آلامه إلى قوة إقليمية مستقبلية أساسية شاء أعداؤه أم أبوا ، وأن الجيش السوري بات مدرسة تعطي الدروس والعبر لمعظم جيوش العالم في الصمود والثبات و العزيمة والإخلاص والبطولة . هنالك من رأى دمشق حاضرة في جنيف النووي وهنالك من أصابته حالة من العمى المفاجئ فما رآها ، وهنالك من حصل على الشهادات العليا وفشل في إمتحان قراءة ما بين السطور فقام بالتوصيف على هواه أو هوى أسياده . أقول أنا كما كثر غيري أن دمشق كانت حاضرة وبقوة في جنيف النووي وليس بالضرورة أن ترصد عدسات جزيرة بني صهيون أو صهيونية آل سعود إبتسامة الوزير المعلم في قاعة الإجتماعات كي يكون الأمر حقيقةً واقعة ، علمنا التاريخ في هكذا مناسبات أن هناك من يسمى بالحاضر الغائب وهو في الغالب لا يقل شأناً وتأثيراً عن بعض من من حضر … . أبسط مؤشر على ذلك ” صدفة ” تحديد موعد جنيف 2 في اليوم التالي لجنيف النووي بعد أن كان عصياً على التحديد ، و هي ” صدفة ” شبيهة بتصريح كيري قبل ساعات من المبادرة الروسية أثناء زيارة وزير الخارجية السوري لموسكو بشأن الكيماوي السوري و إعلان الوزير المعلم قبول سوريا للمبادرة !! ، إن جنيف الإيراني قد مهد الطريق لجنيف2 مطلع العام القادم ” .. إن قدر له أن يرى النور في الموعد المفترض لولادته ، واللبيب من الصدف يفهم أو يستنتج ؟؟!! … .
وأما عن الرسائل فإن تلك التي يرسلها العقل لا تحمل طيب الأنباء للشعب السوري العظيم مع الأسف ، فالعقل يقول بكل ثقة ووضوح أن ما بين جنيف النووي وجنيف 2 ، مرحلة من المراوحة في المكان على الصعيد السياسي لجهة مضي خدمة بني صهيون ” المعارضة السورية ” في تعنتهم وتشرذمهم وتذبذبهم وتنفيذهم لأوامر السادة ، وأوامر سادة السادة ، في التعطيل والتسويف والمماطلة . الدور السلبي الأبرز هنا هو للمتخاصمين فيما خص الموقف في مصر ودعم العصابات الإخوانية هناك من عدمه ، والمتحالفين في ذات الوقت فيما خص الحرب على سوريا ودعم كل التنظيمات الإرهابية القاعدية والوهابية والإخوانية ، إضافةً لجيش المرتزقة من الجهاديين الوافدين من شتى أصقاع الكون . والمقصود هنا تحالف الثلاثي الشيطاني التركي ، السعودي ، القطري … .
إنه التحالف الذي لن يوفر جهداً في سبيل تحقيق إنجازٍ ما على الأرض على الأرض السورية ، إنجازٌ لطالما داعب في السابق مخيلة حمد المخلوع ووزير خارجيته بن جاسم المقصي ، تماماً كما آنس أحلام أردوغان ووزير خارجيته ، ورافق سارقي الكعبة من آل سعود في حلهم وترحالهم ، إنجازٌ تقول معنويات وسواعد رجالات الجيش السوري أنه والمستحيل صنوان . قرابة شهرين هي المدة التي تفصل بين الحدثين المصيريين ، لنا أن نتوقع خلالها أقصى أشكال التصعيد من الحلف العدواني الاخطبوطي الذي يمثل هذا الثلاثي الشيطاني رأسه وقلبه ويديه .. وما غزوة الغوطة الأخيرة الفاشلة لآلاف عناصر الجهاد التكفيري من ” جيش الإسلام ” ، سوى مثالٌ لنا أن نتوقع أن يتكرر تحت نفس العنوان و في أكثر من مكان ، في محاولة لتأخير أو منع الإنتصار القلموني المرتقب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ” كرامة ” حلف العدوان التي ديست بنعال أبطال الجيش السوري .. .
في هذا الإطار هنالك رسائل أخرى غير إيجابية يبعث بها العقل ، مصدرها مقرات الموساد وأروقة حكومة الإحتلال ، تفيد هي الأخرى بأن العدو الإسرائيلي سوف يعمل بالتنسيق مع حلفائه من أباعير نجد والحجاز على ألا تكون هذه المهلة هي الأخيرة ، وبالتالي القيام بكل ما يلزم لتفجير بوابات جنيف 2 و تخريب التفاهمات التي تمت بشأنه حتى الآن . وللعدو الإسرائيلي كما بات الجميع يعلم ما يكفي ويزيد عن الحاجة من العملاء من عتاولة المعارضة السورية ، وما الأنباء التي سربتها أكثر من صحيفة عالمية عن الإجتماعات الأخيرة بين تلك المخلوقات وضباط من الموساد بغية تنسيق الدعم والمواقف سوى عناوين واضحة لتلك الرسائل . الرسالة الأخطر هي حالة عدم وصول العقل بعد إلى قناعة تقول بأن لنا أن نثق بالأمريكي لمجرد أنه توافق مع الروسي على موعد جنيف 2 ، فبعض العقل يعاكس ويخالف هذه القناعة ويؤمن بأخرى تقول أن رعاة البقر سجلوا مراراً على صفحات تاريخهم ودونما حرج ، أنهم أشهر من يحنث بالمواثيق والعهود ، وأن العلاقات الدولية في نظرهم و المعايير الأخلاقية والإنسانية تخضع لعاملين ، أولهما المصلحة الأمريكية الصرفة ، و ثانيهما مصلحة ” إسرائيل ” التي يفرضها النفوذ غير المحدود الذي يتمتع به اللوبي الصهيوني في كل المجالات وأهمها الإقتصادية والسياسية . فإن توصلت إدارة أوباما إلى قناعة بأن مصلحتها تتلاقى مع المزيد من التصعيد في سوريا ، لفترة قصيرة قابلة للتمديد ، أي حتى موعد جنيف 2 أو ما بعده ، فهي لن تتردد بكل تأكيد في إستمرار دعم الأطراف أو الأدوات المنفذة لهذا التصعيد . فإنهاك إضافي للدولة السورية جيشاً وإقتصاداً لن يكون مضراً لإسرائيل أو أمريكا بكل تأكيد … .
وبالعودة للأرض السورية و رسائل ميادين البطولة فيها ، أقول بدايةً أن البعض يعتقد للأسف أن الصمود السوري ما كان له أن يكون لولا الدعم الروسي والإيراني بغير حدود ، إضافةً للمؤازرة التي قدمها مقاوموا حزب الله ، أقول بدايةً أن هكذا إعتقاد صحيح ومنطقي من حيث المبدأ ،وأنا من المؤمنين بهذه الجزئية من الحقيقة لا شك ، لكن حال من يؤمن بها وحسب .. كحال من يقرأ الأجزاء الأولى لأبيات قصيدة ما ويبدي إعجابه الشديد بها دون الإلتفات أو السؤال عن الشطر الثاني لكل بيتٍ منها . أو كمن يتغنى بجمال المحار وروعته دون تأمل جوهره ، فإن كان المحور المقاوم لسياسة الغرب بقيادة روسيا هو محارة رائعة الجمال في أعماق المحيط فإن سوريا الجريحة هي اللؤلؤة التي تزين جوفها ، اللؤلؤة التي تستمد جمالها وروعتها وألقها من ملاحم بطولات جيش الوطن وصمود شعبه … .
رسائل الميدان تنبأ بصوت المدفع وأزيز الرصاص أن حلم الشيطان الثلاثي الأبعاد هو كما حلم إبليس بتملك قطعة من الجنة ، رسائل الميدان على التراب السوري تسطرها تضحيات بواسل جيش الوطن ، كلماتها أرواحٌ مسافرة بذلت على محراب قدسيته ،ومدادها دماءٌ طاهرة تسقيه ليزداد الوطن منعةً وقوةً ، رسائل يرسلها رفاق سلاح من رحلوا . تقول الرسائل : باقون نحن ما بقي الوطن ، والوطن باقٍ ما بقي البشر والحجر والشجر ، ما بقي الزمن ، صامدون نحن صمود الأرض في وجه الأعاصير ، راسخون رسوخ قلعه حلب الشهباء وشامخون شموخ قاسيون ، ثابتون نحن ثبات الإيمان في وجه الكفر ، مؤمنون نحن بالله والوطن .. وحسبنا أنه لو نطق وخاطبنا لقال : آمنوا بي تخلدون .. .
حال معظم السوريين يقول اليوم : يشرفني أنني سوري وأنني بت اليوم أكثر فخراً بسوريتي من أي وقتٍ مضى ، وأن ولائي الأول للوطن السوري وحماة ترابه ، وأن أجمل أحلامي هو مشاركة ملايين السوريين أفراح نصرهم ،، سواء أتانا كالوهج أو البرق الخاطف ، أو تمايل مزهواً في مشيته كما الأسود .. . يقول البعض : يضحك كثيراً من يضحك أخيراً ، ويقول آخرون : شارات النصر حكرٌ على المنتصر ، ومن قطع الجيش السوري يديه وقدميه ، لا أمل له في إستنساخ أو إستيراد أو تصنيع الأكف التي ترفع عالياً رايات النصر أو الأصابع التي ترسم شارته . النصر ومجده لسوريا .
سيريان تلغراف | نمير سعد
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)