سيكون من السذاجة والتبسيط المخل توصيف ما يجري في سوريا بأنها ثورة شعبية ضد نظام حكم دكتاتوري ، لا يعني ذلك تبرئة النظام السوري من صفة الدكتاتورية لأن الدكتاتورية حاضرة في كل الأنظمة العربية بدرجات مختلفة من الانكشاف ،ولكن اختزال الصراع الجاري في سوريا تحت عنوان الثورة الشعبية أو الربيع العربي إنما يخفي ما يحاك في الخفاء وبدأ يتكشف أخيرا من محاولات لا تهدف لإسقاط نظام الأسد ولا لحماية الشعب السوري بل تهدف لتدمير سوريا بتاريخها وحضارتها ورمزيتها القومية والثورية التي عبر عنها الشعب السوري طوال نصف قرن من الزمن ،أيضا أهداف إستراتيجية أمريكية غربية إسرائيلية لتغيير الخارطة السياسية للشرق الأوسط وللعالم العربي من خلال ركوب موجة الثورات العربية منذ بدايتها لتفكيك العالم العربي وخلق (الفوضى الخلاقة) .
لن نعود مجددا للحديث عن انكشاف كثير من أوهام الربيع العربي، وحديثنا عن الأوهام لا يعني تجاهل الحراك الشعبي في بداياته الأولى وما فرضه من وقائع على الأرض وما حقق من إنجازات، بل انكشاف المؤامرة التي أردت واشنطن من خلالها ركوب موجة الحراك الشعبي لنشر الفوضى في العالم العربي وقد نجحت في ذلك نسبيا،ولكن ما نريد التأكيد عليه أن ما يجري في سوريا لا علاقة له بما يحمله مصطلح الربيع العربي من مضامين وقيم نبيلة ،ولا علاقة له بمفهوم الثورة بما هي تعبير عن إرادة حرة بالتغيير. بدأت الثورة في سوريا شعبية وكان على رأسها شخصيات وطنية وقومية تقدمية محترمة ،إلا أنه سرعان ما انحرفت الثورة عن مسارها وتوارت الشخصيات القيادية الأولى والشباب الأوائل الذين بدءوا الثورة ليحل محلهم خليط من كل الأجناس ممولين ومدعومين من واشنطن والغرب وتركيا.لا يمكن أن نتحدث عن ثورة شعبية يهيمن عليها مرتزقة يذبحون ويقتلون من الشعب ويدمرون من البلد ما لا يقل عما يفعله النظام ،ولأن غالبية هؤلاء ينتمون لجماعات دينية مارست القتل والذبح الجماعي ضد مواطنيهم كما جرى في الجزائر حيث كانوا يدخلون القرى أو ينصبون حواجز على الطرق ويذبحون بالسلاح الأبيض كل من يصادفونه ،أو في أفغانستان وباكستان و العراق حيث يتم تفجير مساجد بمصليها ومدارس بتلاميذها ومستشفيات بمرضاها،فلا نستبعد أن يقوم هؤلاء باستعمال السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري الذي لا ينتمون إليه .
التدخل العسكري الأجنبي جريمة بحق الشعب السوري وبحق الأمة العربية والإسلامية قبل أن يكون عملا موجها ضد النظام،وكل من يشارك أو يدعو لتدخل عسكري في سوريا إنما يشارك في هذه الجريمة ،ومرة أخرى ليس هذا دفاعا عن النظام السوري ولكن دفاعا عن المصالح الإستراتيجية العليا للأمة العربية .
لا يعقل وصف ما يجري في سوريا بالثورة الشعبية لأن الثوار الحقيقيين لا يستنجدون بواشنطن والغرب لضرب بلدهم بل واحتلاله إن لزم الأمر ،كما فعلت المعارضة الأفغانية والعراقية وأطراف من المعارضة الليبية، التي وصلت للسلطة على ظهر دبابات أمريكية ونحن نشاهد اليوم مصير هذه البلدان.وكان من الممكن أن تستمر خديعة القول بالثورة الشعبية السورية لولا الصفقة التي أشرفت عليها موسكو للتخلص من الأسلحة الكيماوية السورية.
على من يدافع عن التدخل العسكري الغربي المباشر على سوريا أن يسأل نفسه: لماذا قررت واشنطن وباريس التدخل العسكري المباشر بعد استعمال السلاح الكيماوي ، بينما كانت تتفرج على تدمير البلد وقتل عشرات الآلاف دون أن تفكر بالتدخل المباشر؟ ولماذا أجلت واشنطن ضربتها العسكرية – وربما تلغيها أو تجعلها رمزية – بعد أن وافقت دمشق على وضع سلاحها الكيماوي تحت إشراف دولي تمهيدا للتخلص منه ؟ نعتقد أن الجواب واضح وهو أن ما يعني واشنطن والغرب ليس الشعب السوري بل إسرائيل والحفاظ على وجودها وأمنها وحمايتها من أية تهديدات خارجية.
بعد ثلاث سنوات تيقنت واشنطن أنها من خلال تسليحها للمعارضة أضعفت الجيش السوري الذي لم يعد يشكل تهديدا لإسرائيل،وأضعفت بل دمرت سوريا التي كان من الممكن أن تقود حالة عربية ثورية معادية لإسرائيل ولم يتبق إلا السلاح الكيماوي الذي يهدد استراتيجيا إسرائيل سواء كان بيد النظام أو بيد أية جماعات المعارضة أو حزب الله ،ومن هنا كان مطلوبا تدمير هذا السلاح الكيماوي، فكان استعمال هذا السلاح، سواء من طرف النظام أو من طرف المعارضة وهو ما لا نستبعده ،الفرصة المناسبة للتخلص من هذا السلاح وبالتالي ضمان امن إسرائيل.
لأن موسكو تعرف جيدا السياسة الأمريكية وان ما يعني هذه الأخيرة هو أمن إسرائيل وليس الشعب السوري،فقد قدمت مبادرتها بالتخلص من الأسلحة الكيماوية السورية ،ولا نستبعد أن واشنطن أوجت لموسكو بطرح هذه المبادرة لرفع الحرج عنها ولإخراج أوباما من مأزقه، وما أن أعلنت موسكو ثم وافقت دمشق على التخلص من السلاح الكيماوي حتى استراحت واشنطن وقررت تأجيل الضربة.إن صفقة الكيماوي اكبر دليل على نفاق الغرب وكذب ادعاءاته بالدفاع عن حقوق الشعوب ، وان ما يقف وراء دعم الغرب وعلى رأسه واشنطن للمتمردين العرب ليس تحقيق الديمقراطية أو حماية حقوق الإنسان بل مصالحه في استمرار الهيمنة على نفط المنطقة وحماية الكيان الصهيوني ،وما يؤكد ذلك أن كل الأنظمة التي جاءت على إثر الثورات العربية حليفة وصديقة لواشنطن ولا تعادي الكيان الصهيوني،وان حال الشعوب العربية لم تتحسن بل تزداد سوءا في ظل أنظمة (الربيع العربي) بينما مصالح واشنطن تتوطد وامن إسرائيل يُعزَز .
سيريان تلغراف | د. إبراهيم أبراش
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)